في تاريخ الشعوب ؛ دائماً ما تكون هناك محطات مفصلية تحدد اتجاه المسير للدولة في جميع مناحي الحياة. ولدينا في الكويت العديد من الأمثلة المختلفة عبر أجيال متعاقبة لمحطات تم التوقف فيها و من ثم الانطلاق منها إلى أبعاد جديدة. و بطبيعة الحال يقف وراء هذه التحولات إما أفراداً محاطين بجماعات أو جماعاتٌ تضم أفراداً ، تكون أفعالهم الايجابية أو السلبية في التعامل مع المؤثرات الداخلية أو الخارجية سككاً توجه القطار المنطلق نحو واقع الدولة المقبل.
و سواء كان العامل المؤثر في التغيير فرداً أو جماعة ، فإن الرؤية المسيطرة لهذا الفرد أو الجماعة هي التي تحدد فعلياً النهج الذي ستسلكه الدولة.
فعلى سبيل المثال و في الجانب السياسي ، عندما قتل الشيخ مبارك الكبير أخويه محمد و جراح ليُنصّب نفسه حاكماً على الكويت ، رسم هو كفرد محاطاً بجماعة مستقبل الدولة . إلا أن في مقابل هذا الفعل الشنيع الذي ارتكب بحق أقرب الاقرباء وأحزن معه الكثير ، نجد أن الوضع العام في البلد اتجه نحو الأفضل ، فالحال كما يذكره الشيخ يوسف بن عيسى القناعي في كتابه صفحات من تاريخ الكويت ازدهر ، "و اتسعت الكويت وزاد العمران، وصار لها اسم كبير في خليج فارس، واستتب الأمن في بادية الكويت، وزادت الثروة وتقدمت التجارة وأخذت البواخر تمر الكويت في ذهابها للبصرة ورجوعها منها وبلغ الغواصون على اللؤلؤ الحد النهائي في الاتساع في السفن والمحصول، وكان مبارك في العشر سنين الأول من حكمه جارياً على سيرة أسلافه من التواضع وعدم المظالم بل كان خيراً من أسلافه في صرامة الحكم والدفاع عن أهل الكويت خارج حدود الكويت فالقوي والضعيف عنده بالحق سواء، حتى أخضع آل الصباح بحكمه الصارم فلم يستطع أحد منهم التجاوز على أحد من الرعية" . و حول نفس الأمر و تأكيداً له يقول خالد سليمان العدساني في مذكراته أنه "كان لنفوذ الشيخ مبارك وصولته وقوة شكيمته اثرا كبيرا في امتداد هيبته واحترام الحكومات المجاورة وغير المجاورة لحقوق رعيته وحفظ مصالحا أنى سرت وتباعدت بها السبل. فشاع اليسر والرخاء في عهده وكان ذلك تعويضا للكويتيين عما كان بعضهم منه من قسوات أو نزوات مرعبة" .
في مقابل ذلك ، و نقلاً عن مذكرات العدساني أيضاً نرى مثالاً آخر في كيفة تأثير الجماعة المتحدة بأفرادها في رسم الخريطة السياسية المشرقة للبلد و في الدفع نحو المشاركة الشعبية الحقيقية والتمهيد لإنشاء الحكم الدستوري فيما بعد في الستينات ، فالسرد التاريخي يقول أنه "قبيل عام 1930 توحدت بعض المساعي المخلصة من العناصر الجديدة النشيطة في الكويت ففاوضت حاكمها المرحوم الشيخ أحمد جابر الصباح عن حاجة الكويت الى قيام مجلس بلدي منتخب من الاهالي للاشراف على تنظيف الكويت وتجميلها على غرار المجالس البلدية فارضين ضريبة تجبى من اموالهم الواردة من طريق البحر بمقدار نصف في المائة من اصل ثمن كل بضاعة قادمة للكويت بالاضافة الى الرسم الجمركي المعتاد والبالغ مقداره اربعة في المائة الذي كان يجبى لمصلحة الحكومة والذي لم يكن يصرف منه أي شئ للخدمات العامة"........... "ولقد كان المجلس البلدي محكا صحيحا لاختبار رجالات الكويت من اعضائه ومدى نزاهة أو شجاعة كل منهم تجاه الخدمة العامة وتجردهم من الاغراض والاهواء الذاتية، كما تم بهذا المجلس ايضا خلق النواة الأولى للحركات الوطنية من التالية من بين من ائتلفت نفوسهم وتوحدت اهدافهم حيث تعارفوا بعد طول تجربة وكثرة اختبار، إذ كان المجلس البلدي لكثرة الشئون المناطة به بمثابة برلمان صغير يتجلى فيه العمل المثمر، كما استبان للناس من خلال المواقف المتعددة نفسية كل عضو منهم ومدى حرصه على المصلحة العامة المجردة" .
إن القيام بإجراء فعلي من قبل الشيخ مبارك كفرد أو من رجالات الكويت الوطنيين كجماعة أصبح في وقتٍ ما محطة انطلاق نحو تطور البلد و تثبيت اسمه ككيانٍ مزدهرٍ سياسياً و اقتصادياً واجتماعياً له وزنه في المحيط الاقليمي و الدولي ، ومصدر طمأنينةٍ و زهوٍ في نفسية الشعب. ولم يكن ذلك ليحدث لولا أن الاصرار على الإقدام و التنفيذ جاء عبر قياداتٍ لديها نظرة ثاقبة مصحوبة بأفكار إنمائية ، وإحساس بالمسؤولية وإدراك تام لعواقب التفرد بالحكم و السلطة أو المطالبة بالشراكة السياسية و الادارية في البلد.
إن افتقادنا لمثل تلك الرؤى التقدمية و الاستشراف الواعي للمستقبل أدى بنا إلى الانحدار شيئاً فشيئاً إلى أن بلغ الحال بالوطن أن تتآكل قواعده الأساسية المبنية من أفكار و أفعال الآباء و الأجداد ، فلا من يدعو و يروج للتفرد بالسلطة لديه الحزم القيادي و الحكمة و بعد النظر و التخطيط الشمولي ، ولا من يطالب بالمشاركة في اتخاذ القرار و تحديد توجهات الاعمار لديه الحس الابداعي و حسن التقدير و روح العمل و التعاون و التضحية و البذل و العطاء ، و لتعيش الكويت بعدها حالة فريدة من الفوضى الإدارية لم تشهدها إطلاقاً من قبل.
نحن مهيؤون بعد انقضاء شهر رمضان الكريم للدخول في فترة عصيبة في تاريخ البلد ؛ تحتم على جميع العقلاء المدركين لأبعادها النهوض فعلاً و قولاً لاحتوائها في بداياتها ، خصوصاً و أن معظم من هم في مواقع المسؤولية غير آبهين بما تفرضه عليهم مسؤولياتهم الوطنية و الوظيفية من أعباء؛ وترك الحبل على الغارب لن يكون مأمون العواقب.
على الصعيد السياسي الداخلي ؛ وبالتحديد في مجلس الأمة ، نرى أن النية موجودة لتقديم استجوابات كثيرة منها ما هو معد سلفاً كاستجواب النائب أحمد المليفي لسمو رئيس مجلس الوزراء أو استجواب النائب حسن جوهر لوزير التربية ، أو ما هو في طور الاعداد كتلك التي تجهز لوزراء النفط و التجارة و الشؤون و الصحة. هذه الاستجوابات إن حادت عن المسار الصحيح قد تفضي إلى نوع من الاحتقان السياسي متبوعٌ ربما بحل دستوري للبرلمان مع تغيير الدوائر الانتخابية من خمس إلى عشر أو تعطيل تام و غير دستوري للحياة النيابية في البلد ، فهل العقلاء مقدرين للدور الواجب تأديته للحفاظ على وحدة الصف دون التفريط بالمكتسبات الديمقراطية؟
أما على الصعيد السياسي الخارجي ، فهناك لعبة الشد و الجذب بين الولايات المتحدة و إسرائيل و إيران ، و بما إننا حلفاء حاليين للولايات المتحدة فلا بد وأن نتأثر بالتغييرات التي ستعقب ظهور نتائج انتخابات الرئاسة هناك في السابع من نوفمبر والتي سترسم معطياتها مساراً جديداً للتعامل مع الملفات الساخنة في المنطقة، فهل الحكماء مستعدون للتحرك في توجيه القرار المحلي لما فيه أمننا الوطني و مصالحنا الاستراتيجية؟
ولا ننسى الجانب الإقتصادي ، فمن الطبيعي أن تتأثر الكويت بالكساد العالمي الناتج عن الأزمة الشديدة في الاقتصاد الأمريكي ، وهذا بالطبع سينعكس علينا محلياً كما انعكس على باقي الدول سواء في أداء البورصة و أسعار السلع و خدمات البنوك و التضخم و معدلات التوظيف و البطالة و معدلات النمو ، فهل النجباء لديهم التصور الكافي لكيفية التصرف إذا ما التهمت البقرات العجاف البقرات السمان؟
هذا ناهيك عن القضايا الاجتماعية و الأمنية و التربوية و الأخلاقية و العمرانية و و و ..الخ والتي لا مجال هنا لطرحها في مقال واحد لكثرتها ، والتي إن أتت متعاقبة فستحدث عواصف و أمواج متلاطمة في المجتمع، فهل مفكري هذا البلد قادرين على المساهمة في إعادة مؤشر البوصلة إلى الاتجاه الآمن متى ما حاد المركب تماماً عن نجمه؟
بعد هذا السرد المقتضب عن الوضع الحالي المؤلم ، و عن الوضع القادم الذي تدل معظم المؤشرات أنه سيكون أكثر إيلاماً ، نتوجه بالسؤال لهم : أما آن الأوان يا رجالات الكويت الوطنيين العقلاء و الصادقين الغيارى النجباء أن تنهضوا و تأخذوا زمام المبادرة في إصلاح البلد كما فعل أسلافكم؟ نحن نعلم أنكم موجودون ، لا بل أحياناً نراكم حولنا بهدوء تتحدثون ؛ و في صحفنا و مدوناتنا بكل لباقة تكتبون ، لكن يعز علينا أن تبتعدوا عن ساحة تقرير المصير في وقت به الكويت بأمس الحاجة لمساهماتكم ؛ لا سيما و هي تشكو من غياب القدوة الوطنية الكويتية الخالصة التي تجمع ما بين القول الحسن و الفعل الأحسن.
وأخيراُ .. فما فائدة أن يكون المواطن صالحاً حين يكون وطنه بأمس الحاجة له أن يكون مُصلحاً؟