بقلم : المحامي فيصل صالح اليحيى
لكي نستطيع أن نقرأ خطاب حل مجلس الامة يجب أن ننطلق في قراءتنا من فهم موقعنا كمواطنين، نشكل في مجموعنا الأمة صاحبة السيادة ومصدر السلطات، وهو ما يعني أن كل فرد منا يمتلك جزءا من هذه السيادة، ويعني كذلك وجوب زوال جميع صور حكم الفرد أو القلة من الناس، ويعني في المحصلة النهائية أن المواطنين هم الذين يقعون في أعلى سلم السلطة وقمة هرمها، ولذلك قيل إن 'أهم منصب في الديمقراطية هو منصب المواطن'. 9
كما يجب أن نعي أن السلطة ليست امتيازا لأحد إنما هي مسؤولية وأمانة ، وغايتها صالح المحكومين، فهي وظيفة تباشر طبقا للقانون، وسيادة القانون تعني أن يحال بين السلطة وبين أن تجعل من إرادتها أو رغباتها القانون الأعلى، فتخضع لما يضعه المجتمع من ضوابط، ومن هنا اعتبر مبدأ سيادة القانون التعبير الصادق عن معنى الديمقراطية لأن كل فرد يسهم في تكوين السلطة التي يخضع لها. 9
إيمان السلطة بالدستور
إن مراجعة التاريخ تكشف أن سقف السلطة لم يصل في أي يوم من الأيام إلى قاع الدستور، فنهجها بالتعامل معه منذ وفاة عبدالله السالم وحتى الغزو تمثل في سياسة الإلغاء والانقلاب؛ وأمثلة ذلك كثيرة منها تزوير 1967، وانقلاب 1976، ولجنة تنقيح الدستور 1980، وتعديل الدوائر 1981، وانقلاب 1986، والتصدي البوليسي لديوانيات الاثنين 1989، والمجلس الوطني 1990.
ونهجها بعد الغزو يرتكز على سياسة الإفساد وتفريغ الدستور من محتواه ؛ لأنها أيقنت أن الاستبداد يولد السخط والسخط يولد المقاومة، أما الإفساد فإنه يولد الرضا متبوعا بالشكر. 9
ولعل من أبرز المؤشرات الدالة على الفساد أن معظم القيادات التي يسند إليها أمر إدارة البلاد يطبق في شأن اختيارها كل المعايير إلا معيار الكفاءة، فالكفاءة لم تعد معيارا معتبرا ولا سببا كافيا لا لتولي المنصب ولا للاستمرار فيه! وإذا كانت الكفاءات لا تدير فمن الذي يدير؟ وما النتيجة المرجوة والمحصلة الطبيعية لهذه الإدارة؟
تحليل الوضع القائم
من أبرز ملامح هذه المرحلة أننا بتنا نعيش بين سندان عقلية الحكومة (المتخلفة) ومطرقة نفسية المجلس (المتشنجة)، فالحكومة على مستوى الرئاسة تعاني ضعفا وانعداما للرؤية وترددا في القرار وجنوحا إلى التنازل وتخبطا في مواجهة الأزمات، والحكومة على مستوى الفريق غير قادرة على الإمساك بزمام الأمور وعاجزة عن إدارة نفسها ذاتيا، لأن تشكيلها قائم على تمثيل 'المصالح' وتقاسم 'مناطق النفوذ' بين 'المتنفذين' من 'داخلها' أو من 'خارجها'، وهي لم تكن في أي يوم من الأيام كتلة واحدة أو فريقا منسجما يسعى لتحقيق أهداف موحدة على أرضية برنامج مشترك لأنه لا يوجد بالأساس قواسم مشتركة بين أعضائها. 9
وكل ما تقدم ساهم في خلق حالة التشنج التي يعيشها المجلس والتي تحكم نفسيته وعمله في الكثير من الأحيان، ومن أبرز نتائجها سيطرة نظرة الريبة والشك على تفكيره تجاه كل عمل تقوم به الحكومة، وخطورة هذه النفسية أنها لم تعد تحكم علاقة المجلس بالحكومة فقط، بل تعدتها لتحكم علاقة أعضاء المجلس بعضهم ببعض. 9
أصل الداء
إن أصل الداء أننا في بلد تحكمه المؤسسات 'شكليا' ويسيطر على إدارته 'الأفراد' فعليا، فالمسؤول الحقيقي عن الأزمات والفساد وتعطل التنمية (هو أو هم) من يمسكون (فعليا) بزمام الأمور، ومن يديرون البلد خارج النظام المؤسسي، ومن يتحكمون في الحكومة والمجلس من خلال نفوذهم (الشخصي) لأنهم يضعون أنفسهم فوق كل شيء ويرون أن هامتهم تعلو هامة الدستور. 9
قراءة في مضامين خطاب الحل
ما سبق كان مقدمة للتعرف على حقيقة الأزمة، التي نجري قراءتنا للخطاب على ضوئها، وذلك على النحو التالي : 9
أولا : الخطاب اعتبر أن 'العهد الوطيد' بين الحاكم والشعب هو 'الوحدة الوطنية'... وفي تقديرنا أن 'العهد الوطيد' هو الدستور لأنه هو الضامن للوحدة الوطنية... باعتباره من رسم الحدود وحدد الحقوق والواجبات. 9
ثانيا : الخطاب حمل مجلس الأمة دون الحكومة المسؤولية عما تشهده الساحة البرلمانية من ممارسات شوهت وجه الحرية والديمقراطية... وتهدد سلامة الوطن... وكانت سببا في اذكاء نار الفتنة... في حين أن تحليل الواقع يثبت أن السلطة التي أحد افرازاتها الحكومة هي سبب المشكلة وأصل الداء ، وأن الفتنة هي في استمرار السلطة والحكومة في نهجها الحالي. 9
ثالثا : الخطاب اعتبر أن طبيعة وظروف وملابسات استخدام الاستجوابات تنطوي على خروج عن مقاصدها، وهذا التوصيف إن صدق على بعض الاستجوابات لا يصدق بحقها جميعا، فهناك استجوابات مستحقه وقائمة على سندها الصحيح. 9
رابعا : الخطاب وصف الفشل الذريع للحكومات المتعاقبة بـ'القصور الحكومي في أداء الأجهزة'... معتبرا ذلك نتيجة طبيعية لأجواء الشحن والتعسف، في حين أثبت الواقع أن رئيس الوزراء الحالي هو أكثر من حظي بالدعم من قبل جميع القوى السياسية إلى أن ثبت عجزه وتبينت سوء إدارته. 9
خامسا : جاء في الخطاب -تعليقا على ممارسة النواب لحقوقهم- أن: 'لكل حق مهما كان نوعه شروط وضوابط لا يجوز إغفالها... ولعل أهمها أن يكون منضبطا في إطاره القانوني السليم، وملتزما بروح المسؤولية ومحققا لغاية وطنية...' وهذا كلام جميل... وبما أنه ينطبق على كل حق مهما كان نوعه فإنه بالضرورة ينطبق على حق الأمير في اختيار رئيس مجلس الوزراء. 9
سادسا : ورد بالخطاب أن 'دستورنا... جاء ليكفل الممارسة الديمقراطية الواعية والسليمة التي ينبغي أن ندرك أنها أداة وليست هدفا بحد ذاتها...'، والسؤال هنا: هل حظينا نحن كشعب فعلا بتطبيق كامل وسليم للدستور؟ وهل حظينا فعلا بديمقراطية حقيقية؟... لا شك عندي بأن الإجابة هي النفي. 9
سابعا : الخطاب وجه عتبا كبيرا إلى المؤسسات الإعلامية التي تم استغلال بعضها كمعاول هدم لثوابتنا الوطنية، ولا شك في أن هذا العتاب مستحق، والسؤال هنا: ما الوسائل المعنية؟ ومن هم الملاك الحقيقيون لها؟ وهل قامت الحكومة بواجبها في محاسبتها ومراقبتها؟ وهل المجلس هو المسؤول عن انحرافها أم إن أعداء المجلس هم المسؤولون؟
ثامنا : قرار الحل وفقا للمادة 107 من الدستور... هل هو قرار دستوري مستجمع لكل أسبابه الشكلية والموضوعية؟
تاسعا : جاء في الخطاب 'إننا نتفهم ونعي دواعي بعض المطالبات المتطرفة... إزاء الممارسات النيابة السلبية... ولن أتردد في اتخاذ أي خطوة في صيانة أمن الوطن واستقراره والحفاظ على مصالحه وحماية ثوابته ومكتسباته'... وهذه العبارة واضحة في معانيها ومقاصدها، وهنا في تقديري يجب على الشعب أن يقف على مسؤولياته وألا يتردد في اتخاذ أي خطوة للدفاع عن 'عهده الوطيد' صيانة لأمن الوطن واستقراره وحفاظا على مصالحه وحماية ثوابته ، ويجب عدم الاستسلام لمقولة 'الاستجواب يجلب التعطيل' لأن في هذا القول قلبا للأوضاع، وكأن التعطيل اجراء دستوري والاستجواب إجراء غير دستوري. 9
عاشرا: أخيرا جاء في الخطاب دعوة الشعب إلى ممارسة واجبه الوطني المسؤول في حسن اختيار من يمثله، والتجرد من الذاتية الضيقة والعصبية البغيضة، وهذه دعوة كريمة جاءت من باب النصيحة والتواصي بالحق، ومن باب رد الإحسان بالإحسان فإننا ندعو من طرفنا إلى حسن اختيار رئيس الوزراء على نفس الأسس السابقة. 9
تعيين رئيس مجلس الوزراء بين حق الأمير وواجب الأمة
وفي هذا السياق تتردد دائما عبارة مفادها أن 'تعيين رئيس مجلس الوزراء حق للأمير لا ينازعه فيه أحد'... وهنا نقول إن حق الأمير لا يعني ألا يكون للأمة رأي في هذا الاختيار، أو ألا يكون لها دور فيه، سواء بالدفع بأحد الأشخاص لتولي هذا المنصب أو بالاعتراض على آخر، بل إن هذا الأمر واجب عليها القيام به، ولا يمكن اعتبار قيام الأمة بواجبها المتقدم تدخلا أو افتئاتا على حق الأمير. 9
فضلا عن ذلك فإن رئاسة مجلس الوزراء يجب ألا تكون حكرا على فئة أو شريحة أو عائلة، باعتبار أن هذا المنصب يجب أن يكون قاصرا على الكفاءات والكفاءات فقط. 9
فهل إلى خروج من سبيل؟
ختاما أقول إن الحقيقة قد تدمي أحيانا ولكنها دائما تخرج الدم الفاسد، ولا سبيل للخروج من الأزمة إلا بقيام 'نظام' الحكم على الجدية والانضباط ومراعاة المصلحة العامة، وأن يقدم قدوة حسنة فيبدأ بنفسه ويكف يد 'المتنفذين' الذين من نسيجه عن العبث في البلد ومقدراتها ويجتهد في اختيار 'القوي الأمين'... أما دون ذلك فلن يكون إلا حرثا بالبحر... فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. 9