الجزء الرابع من خماسية مدن الملح حمل عنوان "المُنْبَت" و فيه يستعرض عبدالرحمن منيف حال السلطان المخلوع "خزعل" بعد أن أطاح به أخاه الأمير "فنر" خلال زيارة الى ألمانيا. هذا الإنقلاب الذي شارك فيه رجال زرعهم مستشار السلطان المخلوع "الحكيم صبحي المحملجي" أثر على العلاقات الودية بين خزعل و الحكيم التي توجت بزفاف السلطان من إبنة الحكيم الوحيدة. 9
السلطان بات يتعلق بأدنى بصيص أمل قد يعيد له عرشه المخلوع و لم يلتفت الى كم الوعود التي ساقها له إخوانه لكي يتأمل في عودة سلمية فيما هم يفعلون ذلك من أجل ان يصرف النظر عن أية تحركات قد يقوم بها من أجل عودة الحكم إليه. 9
أما الحكيم وسط إغترابه فقد غاص فلسفاته التي لم تشفع له رحلة الإستحواذ فكفر بكل ما عمل و سعى من أجله في السابق. تغيرت نظرته لبدو موران الذين تنكروا لفضائله عليهم فهم مثل الصحراء التي يعيشون فوقها إذ بقدر ما تبدو الصحراء بسيطة ، مكشوفة ، متشابهة ، فهي خادعة ، غدارة ، و لا يمكن للإنسان أن يستحوذ عليها. 9
تخلى الجميع عن الحكيم ،، إبنه البراغماتي "غزوان" بات يعطيه الدروس في ضرورة أن يميز دائماً بين الرأسمال و الإدارة. الرأسمال باق و هو الأساس و هو الذي يشكل القوة و الهدف. أمّا الإدارة فإنها قابلة للتغيير بإستمرار و قابلة للتطور تبعاً لما تمليه حاجات رأس المال و ضروراته. و الحكومة ، أية حكومة هي الإدارة و هذه الإدارة قابلة للتغير بإستمرار. و لذا فعلى الحكيم أن يتخلى عن السلطان المخلوع و أن يلجأ الى المعسكر الحاكم. و قد تعمد منيف هنا أن يبرز نظرة العرب الوافدين من بطانة الملوك الى ما يجري في المنطقة على إنه إستحواذ على رأس المال بعيداً عن الولاء لحكومة مؤقتة. 9
بل حتى زوجة الحكيم "وداد" هجرته فسافرت الى الولايات الأمريكية أولاً لزيارة إبنها غزوان ثم ما لبثت أن أقلعت الى موران تاركة الحكيم مع إبنته "سلمى" التي طلقها السلطان المخلوع بعد الدسائس و المكائد التي تكفل بها حاشية السلطان. خسر الحكيم جميع علاقاته بما فيها تلك التي أقامها مع جيش الصحافيين و المفكرين الذين إستخدموه كجسر الى قصر السلطان فقط لا غير. 9
الحكيم إكتشف أن الطيور و كل الحيوانات تعبد النور ، تستحم فيه ، تلاحقه من مكان لآخر. و في النور تأكل ، تطير ، تمارس الحب و تتفلي في ضوئه. فإذا جاء الظلام أو جاءت الأيام الشتائية القصيرة خلدت الى الراحة أو بدأت هجرتها. أما الإنسان فإنه يفعل العكس : ينتظر الظلمة لكي يمارس ما يعتبره جميلاً و لذيذاً. و في الظلمة أيضاً تتم المؤامرات و تتغير الدول و تحضّر الإغتيالات و الفتن بحيث لا يبقى للنهار إلا تلك الأقنعة التي يضعها الناس كي يخفوا وجوههم و قناعاتهم و العواطف التي تملأ قلوبهم. لذا فقد خلص الى أن الطيور و الحيوانات أفضل من الإنسان لأنها تعرف كيف تعيش. أما الإنسان فيعرف شيئاً واحداً : كيف يقضي على الآخر. و من أجل القضاء على الآخر يبدد حياته كلها .. ثم ينتحر ! 9
نهاية هذا الجزء كانت مأساوية بإنتحار سلمي و وفاة السلطان المخلوع و إستمرار الغربة النفسية و المكانية للحكيم في منفاه القسري. 9
password: liilas.com