مقدمة لا بد منها
في البداية أود أن أشير الى عدة أمور. الأول منها إن هذا المقال ليس هجوماً شخصياً و لا جماعياً على الملحدين. بل هي محاولة مني لتوضيح بعض الأمور التي قد تغيب عن عقول البعض و حتى نؤسس مبادئ عامة قائمة على الإحترام. الأمر الثاني هو إن الهدف من المقال ليس الرد على دعاوي الملحدين ، فمثل هذا الأمر ما عاد يستهويني و قد أدركت منذ زمن أن هدف هذه الفئة ليست الحقيقة. بل هي مجرد إفراغ لشحنات غضب عادة ما تخرج على صورة سلوكيات الحقد و الإزدراء و الإساءة الى الآخرين. الأمر الأخير هو إنني لا أستسيغ سياسات ردود الأفعال و أحب أن تكون مقالاتي هي إستعراض لأفكاري بدلاً من أن تكون ردوداً على دعاوي الآخرين. لكنني وجدت تشوهاً في الحقائق ما أستطعت أن أتجاوزه. 9
المقال
نشرت الزميلة إيمان البداح مؤخراً مقالتين تكلمت في الأولى عن أسباب إلحاد الشباب الكويتي. حيث أوضحت في المقالة الأولى بأن ما يدفع الشباب للإلحاد في الوطن العربي هو تناقض مناهج التربية الإسلامية مع العلم و المنطق بالإضافة الى أفكار تيارات الإسلام السياسي التي شوهت مضمون الدين. و هذا كلام أتفق و إياه و قد عبرت عنه في مقالة سابقة. أما في المقالة الثانية و بعد بعض التعليقات فقد إنتقدت الزميلة الإلحاد المبني على ردود الفعل العاطفية على مسلكيات و فتاوي "المتأسلمين" على حد تعبيرها (لا أفهم معنى كلمة متأسلمين و ما فرقها عن مسلمين !) الذي ما هو إلا دين بديل و جديد. و إنتقدت من يقول أن سبب الإلحاد هو الإنحلال و ضعف الوازع الأخلاقي. و سخرت ممن يقول بإنجازات الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى و دعت الجميع الى النقاش العقلاني المبني على أسس منطقية لا عاطفية أو نمطية دفاعية. 9
و الزميلة إيمان ، ينطبق عليها المثل "أسمع كلامك يعجبني ، أشوف أفعالك أتعجب". و قبل أن أشرح سر هذا المثل أود أن أشير الى أحد ممارسات تيارات التكفير الإسلامية. 9
من منكم يتذكر خالد الدوسري الذي ألقي القبض عليه بعد عودته من المغرب و نشرت صحيفة الراي (الباحثة دوماً عن الإثارة) قصته بالصور عن تعذيبه من قبل رجال أمن الدولة . خالد الدوسري صور نفسه على إنه شاب "زقرت" كان يقضي الليالي الملاح مع بنات المغرب. ثم كانت ذلك الإعتصام الشهير حين تم إغلاق بعض مكتبات حولي الإسلامية و رأينا صور خالد الدوسري خلف وليد الطبطبائي. و ما هي إلا شهور حتى طفا إسم الدوسري من جديد بعد معارك أسود الجزيرة التي روعت الآمنين. اليوم تسيطر نفس القوى التكفيرية على بعض اللجان و الجمعيات المعنية بحقوق الإنسان و تستنكر تعذيب الدوسري و رفاقه في غوانتنامو (و هو ما نتفق معهم فيه) و تغض النظر تماماً على جرائم مريديها و دعواتهم الداعية للكراهية. 9
إذاً هذه التيارات التكفيرية تستنكر و تشجب و تدين التعذيب (الذي نقف ضده على طول الخط) لكن تصمت على التفجير و الترويع و خطابات الكراهية التي تبرر بالأسباب الواهية. فالحرية لديهم ذات طريق واحد فقط ، هو الطريق المؤدي الى مصالحهم و اهوائهم الشخصية و لا شئ غيرها. 9
اليوم تقف الزميلة نفس الموقف حين تتكلم عن الملحدين. تقول بتفسير صحيح هو إن هذه النماذج هي نتاج المجتمع ثم تقف صامتة و لا نعرف سبب الصمت. الزميلة لا تكمل معروفها علينا من خلال مقالاتها بالإقرار بأن"بعض" هذه النماذج "شاذة" وهي ما إلا صورة لتشوهات المجتمع. و أقصد هنا بالشذوذ ، الخروج عن النمط الطبيعي للإنسان السوي. و لا تعترف بان هذه الفئة ما إنفكت تبث سموم الكراهية و تكره كل ما هو جميل. تكره المجتمع بحلوه و مره. تسعى الى تقويض أركانه. هذه الفئة لا تختلف كثيراً عن ثيودور باغويل ، فهي ضحية و لكنها معتدية أيضاً و سبل الحوار العقلاني مقطوعة معها. فهي منغمسة فيما تفعل بلا عقل. و لا يجوز أن أحمل من لا علاقة له بما حصل لهذه الفئة من مآسي وزر كتابات الكراهية. ثيودور باغويل حمل المجتمع أخطاء والده و عرف بأنه مختلف فكره المجتمع. و أصوات الكراهية الالحادية تريد أن تحمل مليار شخص من المسلمين وزر بعض فئات مجتمعنا التي قد أساءت لها. و لا يجوز لأحد أن يبرر خطايا ثيودور باغويل أو ينفس سوء مسلكياته و يتحدث فقط عن جريمة والده بحقه. 9
العقلانيون اليوم يصرون على إبعاد أنفسهم عن كافة الخطابات الإلحادية. و العلمانيون باتوا يتبرؤون من العلمانية و يعتبرونها سبة بسبب كتابات الملحدين الذين يتقنعون تحت أقنعة العلمانية و الليبرالية. كروان قناة العفن السيد نبيل العوضي يقول بأن الليبراليون هم من دعاة التفسخ الأخلاقي و الملحدون يقولون اليوم بأن الدين هو سبب التخلف الأخلاقي. لكن حين تناقش العلماني فإنه ما ينفك عن القول بأن العلمانية لا تدعو الى الغاء الدين بل تدعو الى تحييده. كيف يستقيم هذا الكلام في ظل هذه الكتابات المشينة؟ ألا يقول العلماني بأن "الأخلاق" ليس مصدرها الدين ؟ فكيف تربط الأخلاق إذاً بالدين (كما أصور ذلك بلبل العوضي) أو باللادين كما يصور الملحد ذلك؟
لنتعرف على بعض الخطابات العقلانية المستندة على البحث العلمي و الإستقراء و الإستدلال المنطقي و الفكر النقدي كما تود تشتهي و السيدة إيمان البداح
و ما خفي كان أعظم من تلك الكتابات الجبارة التي لا تعدو محاولات للقص و اللزق من منتدي اللادينيين العرب. هذه هي إنجازات ملحدينا !! 9
أيتها الزميلة الفاضلة ،، هل هذا هو الحوار العقلاني الذي تدعين إليه. هل من العقل ، تخدير العقل ، بالخمور و المخدرات و المجون و الدعارة كما يقول بعض الملحدين. هل نستبدل خطاب الكراهية بخطاب كراهية آخر؟ ما الفارق بين صمتك الفاضح عن سباب و شتائم الملحدين و صمت الطبطبائي عن جرائم التكفيرين. ألا يندرج كلاهما تحت مسمى "كلمة حق أريد بها باطل". 9
نحن لا نجد غضاضة في طرح أي موضوع للنقاش. و لا ندعو الى إلغاء أحد. بل ندعو الى الحوار مع الجميع كما كتبت في أول موضوع لي في هذه المدونة. الحوار القائم على محاولة الفهم لا محاولة تغيير قناعات الآخرين. و لكن الحوار هذا لا يسع غير المحترم الذي يلفظه الجميع و الذي لا نجد غضاضة في تعريته أو تعرية من تتناقض مواقفه كما هو الحال بالنسبة لك أو لغيرك ممن يقول بأن الإسلام دين إرهابي ثم ينظّر في الندوات بأنه لا يدعو الى الصراع مع الدين. 9
الكاتبة إيمان البداح فتحت على نفسها باباً لا تعرف كيفية إغلاقه و تعترف بأن كثير من الإساءات قد طالتها. و نقول لها ، إبحثي عن السبب. أنتِ لم تكوني يوماً مؤهلة لأن تكتبي عن هذا الموضوع. لأنك لست بذلك الطرف المحايد الذي يحاول شرح وجهة نظر غيره. بل شاركتي في نفس الكتابات المجنونة و التي لا تستند لا على خلق و لا منطق و لا على عقل و روجتي لها و أرجو أن لا تنكري ذلك. ثم يستقظ عقلك ذات نهار و يدعو الى الحوار العقلاني المبني على الإحترام. عن أي إحترام تتكلمين؟
الحرية مسئولية. و المطالبة بالحرية لا تعني المطالبة بأهوائك الخاصة ، بل تعني المطالبة بحرية غيرك. و في مقالاتك لم تطالبي إلا بحرية من توافقينهم الفكر و تناسيتي حقوق من تم الإعتداء عليهم و الإساءة إليهم بهذه الكتابات. فليتحمل كل منا مسئولياته و ليتحمل نتيجة كتاباته. و من يزرع الكراهية فحتماً لن يحصد سوى الكراهية و لا داعي للنواح على النقد الذي يصيب كتاب الكراهية فهذا أمر منافي للطبيعة البشرية. 9
أحد زملائنا المدونين ، مشاري الحمد ، نشر مقالة في صحيفة عالم اليوم ، طالب فيها أن تتم محاسبة أصحاب هذه الكتابات جزائياً. و أنا أتحفظ على هذا الأمر ، رغم تفهمي لمشاعر الزميل مشاري ، لكن الأمر لا يبدو قابلاً للتحقق ، كما إنه يحجب الفرصة على عامة الناس الأمر الآخر بأن يتلمسوا المستوى الهابط لتلك الفئة التي تدعي الحداثة بينما لا هم لها إلا مناقشة روايات قريش و أخبار القبائل من حولها و تتبع أخبار نيازك شبه الجزيرة العربية؟
لكن الزميلة إيمان قد ضايقتها مقالة مشاري و سخرت منه و نعتته بالكاتب الفذ. حسناً ، انا ممن إختلف مع الزميل مشاري في أمور شتى ، لكن لم أجد منه إلا القبول و الإحترام لعموم مخالفيه. لكن أين كتابك الميامين؟ أريد إنجازاً واحداً لملحد كويتي. ما هي آثار الملحدين الكويتيون الذين إمتنهوا الشتيمة كوظيفة بدوام كلي؟ أين إنجازاتهم؟ أين إختراعاتهم؟ أين ثقافتهم و قيمهم و مبادئهم؟ هؤلاء الملحدين الذين لا يتمتعون باليقين الإيماني هم أكثر من يناقش الدين. فعلى ماذا يدل ذلك؟ ألا يدل ذلك على الخواء الفكري الذي قلتي عنه في مقالاتك الثانية لكننا نجدك من أكثر المشجعين له في عالم المدونات؟
الأمر الأدهي بأن الزميلة تعترض على فكرة الزميل مشاري الأساسية في مقاله. و هو إرتباط بعض أفكار العلمانية بالمادية الحسية البعيدة عن الروحانيات و الأمور المقدسة و هي التي عرفها الدكتور عبدالوهاب المسيري بالعلمانية الشاملة التي تدعو الى الفصل الشامل للدين عن كافة مظاهر الحياة بعكس العلمانية الجزئية و التي تقول بفصل الدين عن السياسة في مفهومه السياسي و الإقتصادي. الزميلة تقول بان هناك تعريفات أخرى للعلمانية و هو ما لا نحاول إحتكاره. بل هو ما يحاول الملحدون إحتكاره. تماماً كما يفعل "بعض" رجال الدين بإحتكارهم لمفهوم الدين. إذاً ما يقوم به غلاة الملحدين و العلمانيين هو نفس ما يقوم به غلاة الإسلاميين. لذا فإننا نرى أن أصوات الكراهية في أقصى اليمين تقابلها أصوات لا تقل عنها كراهية في الضفة المقابلة ! و المشكلة هي تماماً كما لخصها لنا الزميل مشاري الحمد في أننا ننادي الانفتاح الاخر والحوار ومن ثم نجلس في الغرف المغلقة ونسب من يخالفنا الرأي وننعتهم بابشع الالفاظ كل هذا لانه لم يكن يشاركنا الرأي. 9
أنا فعلاً أستغرب من يحجب العلم عن نفسه ، و ليت الزميلة حاولت أن تستطلع و تتعرف على ما خطه الدكتور الرحل و كيف إنه قام بمراحعة تعاريف الغربيين و الشرقين (هوليوك و هولت و ينجر و شاينر و محمد أحمد خلف الله و وحيد عبدالمجيد و حسين أحمد أمين و فؤاد زكريا و أحمد حجازي و محمود أمين العالم و محمد أركون و محمد رضا محرم و حسن حنفي و نصر حامد أبو زيد و عاطف العراقي و هاشم صالح و مراد وهبة و عزيز العظمة) حول العلمانية ، ثم قام بتفكيك هذه التعريفات و تصنيفها على هيئة دوائر متقاطعة و من ثم محاولة تركيبها بدلاً من ان تحاول أن تسفه الإستشهاد بهذه الكتابات. 9و
آخر كلامي يا زميلة .. هو النصيحة الصادقة ، بأن تقري بأن هذا المجتمع هو مجتمع مسلم شئنا أم أبينا. و حل مشكلة إلحاد الشباب الكويتي (الذي لا يشكل ظاهرة أبداً بل تحاولين تضخيمها و أنت من ينتقد تضخيم لجنة الظواهر السلبية لبعض الظواهر) لن يكون بالدعوة لتحييد الدين أو إلغائه. صدقيني ، ذلك لن يحدث أبداً أبداً. و النصيحة الأخرى هي الكف عن تشجيع كتابات الكراهية أياً كان مصدرها ، بل العمل على فضحها و نشرها بين الناس حتى يميزوا الغث من السمين. و لا أحسب بان الناس لا تستطيع تمييز ثيودور باغويل و رفاقه. 9
اللهم أبعد شرور ثيودور باغويل عنا. قولي آمين يا إيمان !
9