
مـَن من المتابعين لا يذكر استجواب الثلاثي العليم الخنة الطبطبائي للشيخ سعود الناصر الصباح ، و كيف استغل المستجوبون المدعـّمون بإخوان إبليس (الساعون لتصفية حسابات قديمة حارقة في صدورهم منذ الغزو) صراحة و مبادئ الشيخ سعود للنيل منه حين قال بأن الكتب التي خرجت لمعرض الكتاب و يرى فيها معارضوها عدم المواءمة لأسباب مختلفة إنما خرجت بإمضائه و هو يتحمل كافة المسؤولية السياسية عن ذلك ؛ إضافةً إلى إيمانه التام بأن حرية القراءة يجب أن تكون مكفولة للجميع دون أدنى حجر على العقول.
استذكرت هذه الحادثة و أنا أحاول إيجاد المبرر لسمو الشيخ ناصر المحمد الذي ما انفك الإعلام ينقل عنه و عن مؤيديه بأنه على أتم استعداد لصعود منصة الاستجواب ، مفضلين أن يتم ذلك بجلسة سرية. لقد قلت في نفسي بنوع من التفكير البريء و بعيداً عما يطرح في الساحة من أسباب لا سيما تلك "العرفية" التي لم تذكر أبداً لا بالدستور ولا بمذكرته التفسيرية (كحماية منصب رئيس الوزراء من التجريح العلني أو منع أي احتمالية بالتعرض لحفيد مبارك الكبير و هو المرشح لتولي الأمارة يوماً ما...الخ) أن سمو الشيخ ناصر و هو من يتحلى بقمة الأخلاق لربما لا يثق بما ستؤول إليه علنية الجلسة (هذا إن صـَعـَد منصة الاستجواب) ، و لربما في سرّيتها حماية إضافية له و سيطرة على مواقف النواب المتقلبة و اللعب السياسي خصوصاً من قبل تيارات الإسلام السياسي ، فتلك الألعاب البهلوانية السياسية كانت من ضمن الأسباب التي مهدت يوماً لخسارة الكويت لخدمات سياسي قوي من الطراز الأول هو الشيخ سعود الناصر ، و الذي لا ينكر سوى جاحد الأدوار التي لعبها للمساهمة في تحرير الكويت ، لدرجة أنه عرض سمعته و سمعة ابنته نيرة للخطر حينما دفع بها للشهادة في الكونغرس على أنها فتاة بسيطة من عامة الشعب خرجت للتو من الكويت ، و لتروي خدمةً لوطنها و بكل براعة كما لو كانت هناك عن أمثلة لمجازر المحتل البعثي الصدّامي بينما كانت هي واقعاً ملازمة لأبيها في واشنطن.
إلا أن الفكر لم يلبث طويلاً حتى عاد ليستدرك بأنّ مجال المقارنة و الربط بين وضع الحالتين صعب جداً فيما يتعلق بأمر التقلب النيابي و العبث بالمواقف ، فالشيخ سعود الناصر الذي كان كما صرّح أثناء الغزو أنه على استعداد للتعاون مع الشيطان في سبيل الغاية السامية تحرير وطننا الكويت لم يعمل هو أو فريقه حين ارتفع دخان استجواب المؤامرة في العلن على تجيير الصحافة و المحطات التلفزيونية للدفاع عنه و هو من كان في حينها وزيراً للإعلام ، بل واجه الموقف بشجاعة ؛ تاركاً الشيطان لمن حشدوا ضده بإسم الدين خدمةً لألاعيبهم السياسية (وأعني حدس تحديداً) ، و دافعاً الثمن لانكشاف ظهره سياسياً من قبل زملائه في الحكومة ممن تغاضوا عن استقطاب النواب لصالحه كونه محسوب ضمن فريق الشيخ سعد العبدالله رحمه الله و رداً على مواقف أخرى اتخذها لم تكن لتعجب عدد من أقطاب السلطة. و بالطبع ، و بعد تقديم طلب طرح الثقة و استقالة الحكومة ؛ لم تكن عودته في التشكيل الجديد عبر حقيبة أخرى هي وزارة النفط بها حميمية مع عدد من أعضاء مجلس الأمة و كذلك بعض زملائه في الحكومة ، و هذا ما مهد لاحقاً لمطالبته في التشكيل الوزاري الذي عقبه بالقبول بحقيبة الشؤون الاجتماعية و العمل في سنة 2001 و ترْك حقيبة النفط (التي أعطيت للشيخ أحمد الفهد ليبدأ معها عهده الجديد) ، الأمر الذي رفضه جملة ً و تفصيلاً و أدى مع العوامل الأخرى إلى ابتعاده التام عن العمل الحكومي منذ ذلك الوقت.
بينما يقابل ذلك في حالة سمو الشيخ ناصر المحمد الآنية واقع دعم لوجستي ؛ بدايته أقطاب في السلطة لا تريد من أعضاء مجلس الأمة التعرض بأي صورة لمنصب رئيس الحكومة و الخطوط الحمراء "العرفية" المحاطة به ، متبوعة بحشود نيابية تقدر بحوالي أربعين نائباً تتسابق لتقديم الولاءات بالطرق المختلفة (اللي بسلطة و اللي بطحينية و اللي بزيادة مايونيز و مخلل) ، تأتي بعدهم و علناً ثمان صحف يومية بألوان مختلفة خضراء و صفراء و حمراء و بنفسجية (عدا الصحف الداعمة بالباطن والالكترونية) ؛ و محطات تلفزيونية "مالها أول من تالي" ؛ ومدونون معظمهم من "الفقع الموسمي" ؛ جميعهم "يقرقعون" بالطالعة و النازلة انطلاقاً من "دچة رئاسة مجلس الوزراء" مروراً بكل "ربعة" بالدولة رجوعاً إلى نفس الدچة الأوّلانية" مرة أخرى "سلّم سموه يالله ، خلّه للشعب يالله".
التساؤل إذن ؛ و بعد كل هذا الاصطفاف الكثيف لحماية سموه ، و بعد جميع ما ينشره الفريق السياسي و الإعلامي "الدايخ" بأن سموه على استعداد لصعود المنصة لثقته التامة بعدم وجود تجاوزات ، و بأن محاور الاستجواب "مقدور عليها" ولا يوجد هناك ما يخفيه سموه ، و بأن المحور الأول "لعب يهال" و قد تم تحويل مصروفات ديوان سموه للنيابة للتحقيق ، و أن المحور الثاني حول شيكات سموه "سخافة" كون سموه حر التصرف في "ماله" ، فلم الخشية من صعود سموه في جلسة علنية لمنصة الاستجواب لنسمع هاتين الكلمتين و كفى الله الناخبين شر "الحل الدستوري و غير الدستوري"؟
بكل وضوح ، الجميع في هذا البلد يشيد بطيبة قلب سمو الشيخ ناصر لكن هذا لا يكفي ، فالهيمنة على مصالح الدولة و رسم السياسة العامة للحكومة حسب المادة 123 من الدستور تتطلب إلى جانب الطيبة أن يكون رئيس الوزراء قوي و قادر بحسن قيادته و حكمته على دفع الحجة بالحجة و تبديل الخطة بالخطة و تنفيذ الرؤية بالحزم و العمل الدؤوب. محاسبة رئيس الوزراء ليست بدعة في الديمقراطيات المتحضرة ، بل يسعى لها الرئيس نفسه ليثبت قدرته على المواجهة و جدارته في سدة منصبه ، و إذا كان هناك من يعتقد بأن صعود سموه للمنصة قد يعرضه لتجريح هو في غنى عنه ، فنحن نقول بأن من لا يقدر على ضحد و رد التجريح بالحجة القاطعة الرصينة و هو بأعلى منصب تنفيذي في البلد لن يستطيع أن يحمي مصالحنا كشعب.
الأمانة الوطنية تلزمنا جميعاً أن نقولها صادقة لسمو الرئيس ، بأن لدينا موارد مادية مهولة في الدولة لو تم استغلالها بحسن تصرف فسيركب أفقر كويتي بالبلد "فيراري" دون الحاجة لسموه بالتكرم عبر طيبته المعهودة بصرف شيكات للنواب لصرفها للمحتاجين "كما يروّج لها" . و لدينا إدارات من ضمنها ديوان سموه لو عملت بجد ضمن سياسة وطنية و خطة إنتاجية و قوانين صارمة و شفافية ، لسـُـدّت على "وسيعين الذمة" جميع الأبواب المفتوحة "للْـلهط" و الصرف من المال العام "اللي كل(ن) منهم يحسبه ورث جده اللي ما استلمه". و لدينا كذلك مجلس أمة لو تم مجابهته بتنفيذ برامج تنموية راقية مشفوعة بتكريم المـُـجـِد و محاسبة المقصر ؛ و تم في ذات الوقت حصر صلاحياته في العمل التشريعي الرقابي فقط دون السماح له باستغلال الحصانة النيابية للصعود فوق القانون و النظام العام و تقديم التسهيلات غير العادلة و الواسطات المقيتة ، لـكفت حكومة سموه أنفسها شرور الترضية و الاستغلال و التهديد و الوعيد ، و كفتنا يومياً من الاستمتاع الإجباري بتلك العروض النيابية المهاجمة لها و خصوصاً الباهتة منها على شاكلة "أنا شجيع السيما".
مختصر القول ، نعم نعم نعم ، نريد رئيس مجلس وزراء قوي (والقوة لا تعني أبداً القمع) قادر على مجابهة كل الظروف السياسية داخلياً و خارجياً للانطلاق بالكويت من جديد ، و من لا يستطيع أن يؤدي أمانة هذا المنصب فليعتذر عنه.