مولانا إختار الزيني و ثبت أركانه ، فأي شفيع له يرتجى ؟
رواية قد تبدو للوهلة الولى بانها تاريخية أو تراثية ، لكنها في الواقع تحاكي هموم اليوم. كتبت في سنة 1970 منتقدة النظام المخابراتي التعسفي الذي إنتهجه جمال عبدالناصر بعد أن سُجن الكاتب "جمال الغيطاني" لمدة ستة أشهر في غياهب السجون كحال باقي المثقفين المصريين الذين طالبوا بالديمقراطية و إنشاء الأحزاب و عودة الإنتخابات النزيهة. يغوص الغيطاني في الماضي و يسبر غور التاريخ ليفهم الحاضر و ذلك بالسفر إلى قلب العصر المملوكي لتصوير المجتمع و الإنسان و التاريخ في علاقة بالسلطة لمعرفة أوجه التشابه و الإختلاف بين الماضي و الحاضر. و هو بذلك لا يعيد كتابة تاريخ مصر المملوكية بل يسائل هذا التاريخ و يبيّن فجواته و ثغراته و يقرأ تصرفات السلطة و خلفيات الاستبداد و يفترض الأسئلة و الأجوبة من خلال منطق الافتراض و التصور و التقدير على الرغم من حقيقة الأحداث و الشخصيات التاريخية و دقة صحة المعلومات الواردة في متن الرواية. 9
تستحضر الرواية نهاية العصر المملوكي في مصر في "زمن إمامه الزيني و شيخه زكريا ، سدنته البصاصون ، كاتم سره عمرو بن العدوي ، ليطرد كهولة ما قبل الأوان ، ليسترد شباب العمر ، ليرفع المشفر الحامي عن اللسان". و تدور حول شخصية محورية غامضة هي "الزيني بركات بن موسى" الذي عيّن كمحتسب للدولة المملكوية. سرعان ما تكتشف زيف و خداع هذا الرجل الذي إدعى بأنه "عبد فقير لا أطيق وصايتي على إنسان ، أتمنى إنقضاء عمري في أمن و سلام ، بعيداً عن أمور الحكم و الحكام. ما أريده رقدة آمنة ، لا يقلقني فيها سب إنسان أو سخط مظلوم غفلت عنه و لم أنصفه من ظالمه" قبل أن يحوز على المنصب برشوة دفعها أحد الأمراء و بعدم تزكيته بحسن نية من قبل أجد المشايخ "أبو السعود" بحسن نية ! 9
سرعان ما يثير بزوغ نجم هذا الرجل الذي إدعى الورع و التقى و التواضع و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، المخاوف لدى غريمه كبير البصاصين (أي رئيس جهاز المخابرات) "زكريا بن راضي" ، الذي حاول تأليب الأمراء و مشايخ الدين و عوام الناس على الزيني. لكن زكريا سرعان ما إكتشف تغلغل الزيني في البيت الذي يقطنه من خلال جارية رومية هام كبير البصاصين في هواها و تدعى "وسيلة" ليطلق أحد جواسيسه من طلاب الأزهر و يدعى "عمرو بن العدوى" في تعقب أخبار رجل يقظ الضمير يدعى "سعيد الجهيني" أشتبه بأنه كان وراء تنصيب المحتسب الجديد. 9
تزين "الزيني" بين الخلق بصورته المخادعة حتى اعتبر شخصية أسطورية خارقة مثالية ، انقلبت إلى الشر و الظلم و ايذاء الرعية و تخريب بيوت الأبرياء و تعذيب الفلاحين و نشر الرعب و الخوف بين الناس بجهازه الخطير في البصاصة و قمع المثقفين "سعيد الجهيني" و التنكيل بالمظلومين بدون قضاء ولا محاسبة . إنه رمز السلطة القمعية و الإرهاب السياسي و العنف والطغيان و الاستبداد والتضحية بالشعب من أجل خدمة السلطة والمصالح الشخصية. 9
كان سعيد ك "الصفحة البيضاء التي لم يجر فوقها المداد ، لم يخدشها سن قلم. تمتلئ الدنيا أمامه بالحروف الآنز علامات التعجب و الإستفهام. ألف سؤال حاير بلا هداية. الدنيا كلها سؤال لا أول له و لا آخر ، باقٍ مخلد في مخطوط تهرأت أوراقه ، متآكل الحواف ، كشطت حروفه" .. لكن أساليب أجهزة القمع دمرت حياته و روحه و نفسه. تلك الأساليب التي تم إستعراضها بمهارة ، حين لا يكون "التعذيب" وحده القمين بإطفاء جذوة الضمير في نفس "سعيد" .. لكن اغتيلت آماله بأساليب خسيسة و جعلته يعيش في حيرة مما يجري و لا يتلمس مكامن الخطأ فيما فعله و ما يفعل. 9
و من خلال تتبع أحداث الرواية ، نلاحظ حالة المد و الجزر التي إنتابت علاقة رموز القمع و التسلك في الدولة و كيف أن المصالح الشخصية لهؤلاء الرموز كانت أسمى و أعمق من مصالح الدولة التي دخلت حربها النهائية مع الدولة العثمانية قبل إنهيارها. تنتهي الرواية بسقوط الدولة المملكوية و إختفاء الزيني بركات الذي إنكشف أمره. لكنه سرعان ما يعود لمنصبه القديم لكن بصلاحيات أوسع عن طريق الدولة العثمانية ! 9
تمثل الرواية إدانة لأجهزة القمع و الإستبداد في كل مكان و زمان. تلك الأجهزة الموجه للحفاظ على السلطة عبر إقصاء الآخرين وتصفية أجسادهم . و خير من يمثل هذا الجهاز الخطير الزيني بركات ونائبه زكريا بن راضي باعتبارهما أداتين لاستغلال الشعب واستنزاف ثروات البلاد و قمع الأهل و المثقفين والمتطلعين إلى الحرية باستعمال وسائل جهنمية في المحاسبة والتصفية كالتجسس والزيف و الادعاء و السجن أو التشهير أو التجريح أو التعذيب النفسي و الجسدي بل و حتى القتل و الإعدام. 9
رواية دائرية إبتدأت بالهزيمة و إنتهت بالهزيمة أيضاً. إعتمدت على شخصيات تاريخية حقيقة ذات أبعاد نفسية و إنسانية واضحة. و تقدم رؤية رؤية تفضح الاستبداد و القمع و تدين أجهزة المخابرات و التجسس و تطرح قضية الديمقراطية و التناقض بين الشعار و الممارسة. تفضح أنظمة الاستبداد في العالم الثالث بصفة عامة. تلك الأنظمة التي تستند إلى المؤسسة العسكرية و جهاز المخابرات لقمع الشعب و تعذيب الرعية من أجل أن يتفرد الحكام وأعوانهم بالسلطة و تمنع الحوار و الجدال و إبداء الرأي الآخر. فالسلطة تهدر جميع الحقوق الإنسانية ، و الغاية تبرر الوسيلة. و تكشف الرواية أيضا زيف السياسيين المقنعين الذين يحاربون الديمقراطية و يتشدقون بالشعارات لكن ممارساتهم الفعلية تعاكسها وتناقضها و تبيّن أن الاستبداد يولد الهزيمة و المأساة ، و أن لكل بداية نهاية. 9
نص تاريخي الشكل لكن أبعاده الواقعية حاضرة و بقوة اليوم. عالج ظاهرة القمع والخوف وبيّن أسبابها و مظاهرها المرعبة في الحياة العربية. و لا تمثل رواية تحكي عصر المماليك بل هي وصف دقيق لأحوال اليوم من قهر و ظلم و تجسس على الشعوب وفرض ما يريد السلاطين و الحكام من سن لقوانين تدعم مراكزهم وثرواتهم. أبدع فيه الكاتب "جمال الغيطاني" و ترجم الى لغات عديدة منها الإنجليزية و الفرنسية و الروسية. و كان أول نص عربي يترجم و ينشر في سلسلة "بنجوين" البريطانية الشهيرة للأعمال العالمية الكلاسيكية. 9
في الختام لا يسعنا إلا أن نقول ،، "اللهم ولِّ علينا خيارنا و لا تولي علينا شرارنا" !! 9
6 comments:
ماشالله حلم جميل شغال كتب هاليومين
الله يزيدك من نعيمه كمان وكمان :)
يا نايمين اصحوا
الكويت صارت بدون ،، لا علم ولا اسم
كل عام وانت بخير
وأضحى مبارك
حقوقي
آمين يا رب العالمين
أهل شرق
إن تكلمت راح أخورها فخلوني ساكت
إنتوا تكلموا
إبتسامة
و إنتي بصحة و سلامة و ينعاد علينا بمزيد من التقدم و الإزدهار لدولتنا الحبيبة
Post a Comment