من طلب أخلاق الملائكة غلبته أخلاق البهائم ! 9
يطرح يحيى حقي مشكلة العلاقة بين الشرق و الغرب لا سيما بعد أن بدأ الصدام مع الغرب في بلده مصر حين جاءت الحملة الفرنسية مبشّرة بحضارتها في وقت كان يعيش فيه العرب يعيشون حياة مغلقة على ذاتها و لا تعرف من أمر الحضارة الوليدة شيئاً و ذلك بسبب الضعف الذي أصاب الأمة في زمن المماليك و العثمانيين و توقف حركة الترجمة و انقطاع الاتصال بالغرب مع انهيار دولة الأندلس مما فرض على العرب عزلة شديدة عن التطورات الخطيرة التي كانت تقع في الجانب الغربي من العالم مثل اكتشاف امريكا و التقدم المادي المتلاحق في الإنتاج الزراعي و الضناعي و التسليحي و طرق المواصلات و اكتشاف ثروات جديدة متلاحقة. 9
هذا التخلف الشديد سهل للأوربيين غزو العالم العربي كله بإستثناء مناطق محدودة كانت عسيرة على الغزو مثل بعض أجزاء شبه الجزيرة العربية. كثيرون ممن فتنتهم هذه الحضارة قد رأوا فيها الحل الوحيد لإنقاذ العالم العربي من الضياع الحضاري الكامل و ظهر كثيرون ممن كانوا يقولون بأن دور العرب في الحضارة قد إنتهى الى غير رجعة و أنه لم يعد أمام العربي إذا كان يريد مواصلة الحياة جيلاً بعد جيل إلا أن يكون صورة طبق الأصل من الإنسان الغربي في كل شئ. 9
و من أبرز هؤلاء كان مصطفى كمال أتاتورك الذي دفع بتركيا في العشرينيات و الثلاثينيات من القرن الماضي دفعاً عنيفاً الى الدخول في إطار الحياة الغربية و أختار لتحقيق ذلك إسلوباً حاداً فألغى الخلافة الإسلامية سنة 1924 و ألغى إستخدام الأتراك للحرف العربية في كتابة لغتهم و استبدلها بالحروف اللاتينية الأوروبية و منع الأذان في المساجد و قال بكل فظاظة و إستهتار مشيراً الى القرآن الكريم "ما دمتم تتبعون هذا الكتاب فستظلون متخلفين و لن تعرفوا معنى لأي نهضة أو تقدم". 9
و أجبر أتاتورك النساء بالعنف و الإرهاب لا بالحجة و الإقناع على أن يخلعن الحجاب و يلبسن الأزياء الأوربية و طرد العلماء المتمسكين بالأحرف العربية و أحال بعض المساجد الشهيرة الى كنائس. كانت إجراءاته بالغة الشدّة في سبيل تحويل تركيا خلال سنوات قليلة الى الغرب و قطع صلاتها بماضيها الشرقي و الإسلامي. 9
تصور بعض دعاة التجديد من العرب أن هذا الإسلوب التركي العنيف و الخاطئ هو الإسلوب الوحيد الملائم لتغيير العالم العربي و النهوض به و دفعه الى مجال الحضارة الحديثة و ظهرت دعوات تندد بثقافة العرب و لغتهم و تاريخهم الحضاري كله. 9
و من الجدير بالذكر أن مؤلف الرواية يحيى حقي عاش في تركيا ما بين 1930 و 1934 موظفاً في القنصلية المصرية و تابع أحداث أتاتورك و تأثر بها قبل أن ينتقل الى باريس و روما و يتعرف على الحضارة الأوربية عن قرب. 9
بطل الرواية "اسماعيل" هو طبيب مثقف تعلم في الغرب و عاد الى مصر و تحديداً الى حي السيدة زينب ترك يترك انجلترا بريفها الجميل و أمسياتها الهنيّة و قسوة شتائها الجبّار و جاء الى بلد يفرون فيه من بعض الرذاذ كأنما تحيق بهم نكبة أو يدهمهم الطوفان. فنساءل في قرارة نفسه : ما فائدة الجهاد في مصر و مع شعب كالمصريين عاشوا في الذل قروناً طويلة فتذاوقوه و أستعذبوه ؟
اسماعيل كان يرى بضرورة نسف التقاليد و الملامح القديمة للشخصية المصرية و لا سيّما تلك الخرافات المتعلقة بكرامات الأولياء كقنديل أم هاشم الذي كان يشفي المرضى و يحقق الحاجات. و تصور أن هذا التغيير يجب أن يتم في عنف و قسوة لأنه لا سبيل الى التقدم و التطور إلا بهدم الموروثات كلّها و إعادة بناء و تشكيل الشخصية المصرية من جديد على النمط الغربي بعيداً عن الشرق و تقاليده. رفض أن يسلم نفسه للمنطق السائد و إلا أنكر عقله و علمه. فمن يستطيع إنكار حضارة أوربا و تقدمها و ذل الشرق و جهله و مرضه ؟ لقد حكم التاريخ و لا مرد لحكمه و لا سبيل الى أن ننكر أننا شجرة أينعت و أثمرت زمناً ثم ذوت. هرب من وطنه جرياً لكي لا ينكص عن أن يطعن الجهل و الخرافة في الصميم طعنة نجلاء و لو فقد روحه.9
قطع اسماعيل صلته بالواقع و اكتشف فيما بعد أنه بأفكاره التنويرية وحدها غير قادر على التأثير في شئ حوله و غير قادر على تغيير أي إنسان أو أي قيمة من القيم السائدة. لقد أصبح كائناً معزولاً بأفكاره الجديدة عن المجتمع كلّه بل و أصبح مكروهاً و مرفوضاً و غير موثوق به من الجميع. 9
ثم جاءت لحظة "التنوير" الكبرى عندما إكتشف أن تغيير الواقع لا يمكن أن يتم إلا بفهم واقع المجتمع و محبته و الإنتماء إليه و معرفة ما فيه من عناصر إيجابية قابلة للبقاء و الإستمرار و أن التغيير بالقوة و العنف و القهر و الإجبار لا يمكن أن يجدي أو يفيد. المجتمع يجب أن يتغير من الداخل لا من الخارج فالأخذ من الغرب يجب أن يقوم على الإختيار الواعي الدقيق و ليس كل ما في الغرب صالح للشخصية العربية كما إن الحضارة الغربية ليست مقدّسة و ليست خالية من العيوب و المثالب و لا يمكننا أن نأخذ هذه الحضارة بكل تفاصيلها و في جميع المجالات و الجوانب إذ لا بد من الإختيار. 9
يجب لمن يؤمن بالتطور و التجديد أن يزرع في أرضه الأشجار المثمرة القائمة على المبادئ التي ينتمي إليها و أن يرويها بالحب و الإنتماء بشرط أن يعترف بخصائص التربة التي ستنمو فيها الأشجار تلك. و لا يمكن لأي إنسان أن يؤثر في مجتمعه إن كان عديم الثقة به منكراً و محتقراً له و غير قادر على محبته و التفاهم الصحيح و إكتشاف اللغة المناسبة للتخاطب مع ناسه. 9
15 comments:
سلسلة روائعك مستمرة و تميزك فى عرض الموضوع بصمة شخصية...تقبل تحياتى
اكتشاف امريكا ?
You mean the American continents didn't exist until "discovered" by Columbus?
اسمحلي ... إحتلال أمريكا وليس اكتشافها
As for the rest, absolutely amazing.
Read the link I posted, entitled On True Freedom
Same idea.
Oh yeah, forgot about that.
Here it is
مقدمة جميلة ، وإيجاز طيب للرواية
المقولة في أول سطر مقتبسة من الرواية ؟
ليس لي في الروايات ..
لكنني اتشكرك لما كبت يداك ..
جاري حميل الرواية ولنا عوده !
متميز كالعادة يا حلم
ولا يعيبك شئ سوى تمسكك بنادي البيرة
فليتك تترك بني انفيلد الى الأرسنال فتريح وتستريح
: )
أصلح كمبيوتري وانزلها لأني حبيتها جدا
"فنساءل في قرارة نفسه : ما فائدة الجهاد في مصر و مع شعب كالمصريين عاشوا في الذل قروناً طويلة فتذاوقوه و أستعذبوه ؟" .. نفس الكلام يراودين حاليا .. متى نتغير ونرتقي؟ سواء تربويا او سياسياً؟؟؟ تؤلمني هذه الفكرة كلما تذكرت ان الأمر شبه مستحيل لأن اليد الواحدة ما تصفق
أشكرك صدقا على هذا البوست
صباح الخير
مستر
شكراً جزيلاً على الإطراء
فارمر
اكتشاف تعني وجود الشئ قبل إكتشافه
تختلف مثلاً عن إختراع
شكراً على الرابط
سأقرأه
مي
ودي أتحرش
ايدي تحكني بس راح أقاوم
بس كان في بوست لك أعجبني جداً. أظنه كان عن السعادة و الإحباط و الأمل
:)
نعم المقدمة المظللة باللون الأحمر مقتبسة من الرواية
ساخر
العفو
غير معرف 1
بعيد عنكم
ورونا مراجلكم الليلة
:)
الوتين
ليت الداء الذي طال كمبيوترك العزيز على قلوب المدونين قد طال ميزانك أيضاً
لا يوجد ما هو مستحيل
فقط لو تسلحنا بالوعي و الضمير الحي
فعلا ماكو مستحيل .. لكن تبقى اليد الواحده عاجزة
والميزان أبشرك .. عال العال من حطيت تقويم ونزلت 10 كيلو .. مو مصدقه بس ستل متحسرة عالعلج
مسالورد
الوتين
عشرة ؟
ياللهول
أخبار مو زينة
Post a Comment