Tuesday 2 March 2010

حدائق النور لأمين معلوف


لو رأيت على شجرة الخوخ هذه برعماً مزهراً و قلت لك "تلك خوخة" فهل أكون قد كذبت ؟ كلا ثم كلا ، أني أكون ببساطة قد استبقت الحقيقة بفضل واحد

يحكي أمين معلوف سيرة "ماني بن فاتك" الرسّام نبي الجمال والتسامح و الحب و الذي وضع في القرن الثالث رؤية جديدة للعالم في بلاد ما بين النهرين. قدم من بلاد بابل ليجعل صيحة تدوي في أرجاء العالم. تبدأ القصة في فجر العهد النصراني و بعد أقل من قرنين على وفاة المسيح و على ضفاف نهر دجلة. قليلٌ من المؤمنين إحتفظوا بصلواتهم لوثنٍ أوحد. هرع البعض لقربان "ميترا" و بحث البعض الآخر عن ركن ظليل في حدائق "عشتار". و يطوف بعضهم حول محراب "نانايي" التي يدعوها الإغريق "أفروديت" و الفرس "أناهيتا" و المصريون "إيزيس" و الرومان "فينوس" و العرب "اللات" فمن يرفض رؤية الله في الصور التي تقدم إليه هو أقرب أحياناً من غيره الى صورة الله الحقيقية. "فهل يشعر ملك بالحسد إذا أنت قبلت حاشية ثوبه ؟ و ليست الشمس سوى وشْي على رداء الله تعالى بيد أنه من خلال هذا الوشْي يستطيع الناس أن يتأملوا نوره بشكل أفضل" كما كتب معلوف على لسان ماني. 9

و إنتصب في ذلك الزمان معبد "نبو" إله المعرفة على جسر "سلوقية" و إله الشئ المكتوب الذي يسهر على العلوم الغيبية و الجلية و شعاره يراع و كهنته أطباء و منجمون و أتباعه يلقون عند قدميه بالألواح أو الكتب أو الرقاع التي يتقبلها أكثر مما يتقبل قربان آخر. و في سالف الأزمان كان إسم هذا الإله يسبق أسماء الملوك الذين كانوا يسمّون على هذا "نبو نصر" أو "نبو بولصر" أو "نبو خذنصر". 9 

هذه كانت رسالة أمين معلوف من خلال روايته هذه فقد آمن ماني بجميع الأديان و لا يؤمن بأي منها فما يهمه هو الإله الذي بداخل الإنسان و يتقوّى بالجمال و المعرفة. كان ماني منفتحاً على جميع الأديان حتى الوثنية منها لإيمانه بالإنسان فلم يكن يراعي لاختلاف المعتقَد مادام المعتقِد هو نفسه إذ إن لكل شعب تقاليد دونت في شرائعه و نسبت للمشيئة الربانية. أرّخ معلوف لزمنٍ ما زال يتواصل و يزداد فيه العطش إلى التسامح و الجمال بقدر ما تتسع مساحة الدمار. أصر ماني على على الإنسان و على الجمال فيه و سبق بأزمان عديدة دعوات النهضة الأوربية و الفلسفات المعاصرة و كان بهذا المعنى تقدميا إلى حدود بعيدة، متجاوزا عصره. 9

كانت نبوءة ماني دعوة لاكتشاف الجمال الكامن في الإنسان و الكون من حوله لهذا كان يشجع من اتبع دعوته إلى ممارسة الفنون إذ إن الشرارة الإلهية موجودة فينا جميعا و على كل أحد أن يغذوها بالجمال و المعرفة، و بهذا تتمكن من التألق. و بالإضافة إلى كونه طبيباً بارعاً كان ماني أحسن رسامي عهده و المؤسس الأول للرسم الشرقي و حين شاء إمبراطور الشرق آنذاك "شاهبور" أن يخلد صورته جرياً على تقاليد الأسرة الإمبراطورية فإنه لم يختر غيره لهذه المهمة. 9

كان بعتقد ماني أن مصير العالم في يد البشر فهناك قوّتان أساسيتان تحكمان الكون: قوة "ملك حدائق النور" و "قوة سيد الظلمات" حيث لم يَخلق أحدهما الآخر و لا يملك أحدهما مصير الآخر و الإنسان في الأخير هو الطرف الحاسم فلقد عُهِد بالخلق إلى الإنسان و إليه يرجع قبل أي كان أن يجعل الظلمات تتقهقر. و هذه فكرة يعتقد بها كثير من اللادينيين في عالم اليوم و الذين يؤلهون الجمال و يعتقدون بالقوى الخفية للطبيعة من حولنا و ينقل معلوف على لسان ماني مثل هذا الفكر إذ يقول "أتساءل أحياناً عمّا إذا لم يكن سيد "الظلمات" هو الذي يوحي بالأديان لا لشيء إلا لتشويه صورة الله". 9

رفض ماني أن يكون نبي الإمبراطور و أن تسفك باسمه الدماء و لو مقابل تحول ديانته إلى دين البلاد الرسمي بتبني "ملك الملوك" له. و لم يعط رأيا في الحرب حين كان العاهل يستجدي توأمه السماوي قائلاً "عندما يجلس المرء على هذا العرش فهناك دائماً بين آلاف الأنظار التي يلتقيها أو تتحاشاه نظرةٌ يكتشف فيها بأنّه ليس مخلّداً. و هذه النظرة هي عندي نظرتك". لكنه سعى دائما إلى التدخل لصالح السلام حتى اصطدم مباشرة بالقصر. وفي الوقت الذي كانت فيه جيوش الإمبراطور تحارب، كان هو ينشر دعوته مناديا بالجمال و السلام. كان ماني يؤمن بأن على من إختار إرشاد الآخرين أن يستنكف عن كل سلطة و كل ثروة و لا ينبغي أن يملك غير الثوب الذي يرتدي و لا شئ غيره و لا حتى و لا طعام غدٍ. و هكذا يمكن التمييز بين الحكماء و الأتقياء المزيفين بائعي المعتقدات. 9

اختار ماني حياة الزهد و لم يتخذ امرأة و حمل موقفاً إيجابياً من المرأة عكس دعوات عديدة أخرى إذ إن الشرارة الإلهية موجودة فينا جميعا ، إنها ليست ذكراً و لا أنثى. و كان من بين مناصري ماني نساء كثيرات منهن من حرقن مع كتاباته لما رفضن البصق على اسمه و حين استشهد على الصليب ، رحن في بادرة جميلة يقبلن شفتيه تباعاً. 9

و كانت لماني معناة شاقة مع المتطرفين إبتدأت مع الناصريين أصحاب الملابس البيضاء الذين إعتكفوا في بستان نخيل و ترترع ماني في سنين طفولته و مراهقته بينهم في حياة التقشف التي كانت تنظر بعين الارتياب الى كل تعاطف و كل تسامح و كل رحمة و يبدو لها كل تصرف كريم مدنّساً بالغرور معتبرين الناس خارج هذا البستان كفرة و قبل أن يخوض صراعه المرير مع رهابنة القيصر الذين استقبلوا كلام ماني منذ بداية دعوته بنفس التهم التي حملها و هو يخطو أولى خطواته خارج البستان لكن ماني لم يكن يتبادل التهم مع أحد لأنه يحاور "نور" الناس و ليس "ظلماتهم". و تجلّى هذا الصراع في دعوة ماني للمساواة الخالصة بين الملاك و الصناع و السخرة حيث أطلق البابلي صيحته في بلاد السند وقامت دعوته على أسس التسامح وعشق الجمال في كلّ شيء فتحدّى الصراعات الطائفية والطبقية السائدة في عصره وفي كلّ العصور والتي للأسف تسببت للأسف في اضمحلال ذكراه و حرق كتبه و أفكاره. 9 

عاش ماني طفولته وصباه في عالم الطائفة المغلق. عالم القمع والحماية الجبرية حتى استبدلها بما يناقضها كليّاً و خرج من عالم الظلمات لحدائق النور. عرف ماني المراهق أنّ بستان النخيل هذا لم يكن المكان الملائم له عندما سمع صوتاً يكلّمه ، صوت "الوحي" الذي نزل عليه ورأى صورته على صفحة الماء ، وكان يدعوه "توأمه" أو "رفيقه السماوي" و الذي أرشده في كلّ ما قال وما كتب و ما رسم متحدياً جماعته التي في أبسط الخطوط ضرباً من ضروب الوثنية ، حيث يظن الناس أنهم يعبدون الربوبية في حين لم يعرفوا قط منها سوى التجليات ، تجليات من خشب أو ذهب أو جص أو رسم أو كلمات أو أفكار. و في عامه الرابع والعشرين تلقّى ماني من شفتيّ توأمه الأمر بالرّحيل عن أصحاب الملابس البيضاء، تركهم بعد أن خلع أثوابهم البيضاء الجامدة، واكتسى بثوبٍ مزج ألوانه بنفسه. 9

كثير من المغالطات التاريخية إحتوتها تلك الرواية فعلى سبيل المثال إعترف ماني بن فاتك بنبوة عيسى لكنه أنكر نبوة موسى رغم إنها كانت سابقة لعيسى. و دعا الى التحلل من أمور كثيرة حتى أجاز زواج المحارم بإسم عشق الجمال و الشهوة و لم يقدم معجزة حقيقة واحدة تدل على نبوّته كما إن كتبه قد أحرقت فلا نعرف كيف إستدل معلوف على الأفكار الحقيقة لماني. 9


8 comments:

Anonymous Farmer said...

One may never successfully sermonize through fiction since fiction is always open to innumerable interpretations that may not fit the sermonizer's original and intended "lesson" but rather, fit that of the reader's.

That's the problem with fiction; it's apprehended by our own personal schema, not others'.

Best way to sermonize is to spit your own words out, loud and clear.

Kinda like the post's original title, which I actually favored, if only for its direct self-reflectiveness.

ebtsamh said...

حلم ما شاء الله

انسان مثقف جدا

طول عمري اقرأ , بس لما اطلع ع

تلخيصات كتبك الاقي اسماء وشخصيات اول

مره اتعرف عليها .. كما انك قارئ

متنوع .

صراحه استمر والله يوفقك ومنك نتعلم

كون دائما بخير :)

Multi Vitaminz said...

مرحبا حلمي الجميل والرائع ..

فعلاً روايات جميلة ورائعة جداً وأخي الكريم صحيح الرواية تعطينا أبعاد للحياة ولكن ليس الحل الأمثل لأمتنا النائمة والباعدة عن الدين فالدين والبحث عن الحقيقة هي الأصل في حياتنا ففي إختلافهم وتفرقتهم سبب في ضياع الأمة ..

وشكراً لكم

-_- said...

اسجل حضوري
شكرا لك على التلخيص

حلم جميل بوطن أفضل said...

المزارع المجهول

I know

أختلف و أشكك في الدقة التاريخية التي نقل بها معلوف سيرة ماني


لكن تبقى أفكاره واضحة .. إنسانية .. متسامحة

و إن أختلفت معها

حلم جميل بوطن أفضل said...

ابتسامة

شكراً على الإطراء الذي لا أستحقه

الكتاب القادم

المنعرج الهرمينوطيقي للفينومونولوجيا

متأكد أنه سوف يعجبك

:)

حلم جميل بوطن أفضل said...

فيتامين

كلامك صحيح

لكن بشرط الفهم الصحيح للدين

و كل منا له مفهومه الخاص و نتصارع في سبيل فرض مفاهيمنا الخاصة تلك

و النتيجة

الإبتعاد عن الدين

حلم جميل بوطن أفضل said...

شرم

أهلاً و سهلاً بك في مدونتك

مر علي لغز انشتاين منذ سنين مضت

و كان لدي حلين صحيحين و مختلفين

هل يجعلني هذا في ال 2 % ؟