لقد صلّي قبل قليل على النجدي .. المدعو خالد بن سعود .. كبير الوهابيين .. من يعرف منكم الميت فليتقدم .. و له الأجر ! 9
محاولة لسرد تاريخ الدولة السعودية الثانية التي قامت على أنقاض الدولة السعودية الأولى التي دمّرت بواسطة "إبراهيم باشا" ابن محمد علي باشا بناء على طلب من السلطنة العثمانية التي أزعجتها هجمات الوهابيين على الحجاز و كربلاء و ترويعها لمن تراهم مخالفين لها بالدين و إما مشركين أو كفّار.و تمثل هذه الحقبة التاريخية المهمة من تاريخ المملكة في القرن الثامن عشر و ما رافقها من حروب و دمار و ولاء و تبعية و عقلانية و تطرف مثار جدل من وقتها إلى يومنا هذا. 9
الرواية تُسرد عن طريق سبعة رسائل من الأمير المخلوع "خالد بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود" احد أمراء الدولة السعودية الثانية الذي مات عام 1861م الى صديقه النجدي "حمد بن محيمل" و التي وقعت فيما بعد في يد المخبرين الذين عهدت لهم مهمة مراقبة الأمير خالد بن سعود سليل الأسرة السعودية الأولى كان موضع إثارة جدلٍ حتى يومنا هذا، كان خالد من ضمن الأسرى الذين رحِّلوا إلى القاهرة بعد خراب الدرعية ، وهو شقيق الإمام عبد الله بن سعود الذي أعدم في إسطبنول. و تم اختيار الأمير خالد من قبل محمد علي باشا ليكون حاكماً على الرياض التي دبت فيها الفوضى والخلافات بين الطامعين في الحكم قبل أن يعود على رأس حملة مصرية تركية بعد أن مكث سنوات عديدة في مصر التي غيَّرت بعض مفاهيمه السياسية والاجتماعية والفكرية وذلك لقربه من العالم الخارجي والتيارات الفكرية المتعددة من الأزهر الشريف إلى الكتب التي كانت تقذفها المطابع. عُرِفَ الأمير خالد بأبي طنة لأنه يعاني من "طنين" يلازم أذنه اليمين على إثر إنفجار كاد أن يؤدي بحياته أثناء حصار الدرعية وتحطيمها؛ فلازمه الطنين فيما هو أشبه باللزمة النفسية. 9
فقبل ذلك ، و في الدرعية ، كان الأمير خالد و أترابه الذين تتراوح أعمارهم بين الثالثة عشرة و الخامسة عشرة ، يعيشون خارج زمن الحبور الذي من المفترض أن يعايشه مَن كان في مثل أعمارهم ، عالم التشدد الديني و القسوة التي لا بد أن تكتسي الوجوه – حتى الصغير منها – كدليل على الزهد و الإشتياق للجهاد و الموت المقبلين ، لم تُترك لهم فرصة للضحك و اللعب و التغزل البرئ بالفتيات المُلقنات درساً واحداً : البنت تخرج من بيت أهلها .. الى بيت زوجها .. ثم الى القبر ، و ما عدا ذلك ليس إلا التسريع بالرحيل الى المرحلة الثالثة المذكورة أعلاه ! 9
لقد قيل للأمير الصغير خالد و لأمثاله من شبيبة "آل سعود" أن دولتهم السلفية لا يمكن أن تُهزم ، و أن حدودها لا يمكن أن تُرسم ، لأنها تتوسع في كل يوم قامعة الشرك و البدع. و قيل لهم : إن كل الإنتصارات و المغانم التي جناها آباؤهم و أجدادهم الأوائل بناةُ الدولة لا يمكن أن تُقارن بالإنتصارات و المغانم التي سيشهدونها ، عندما يأتي دور جيل القيادة الشابة المنحدرة من الدوحة المباركة ! لقد بلغت تلك الأحلام مبلغاً جعلت قائد الدولة السلفية الجهادية حامل الدعوة الإصلاحية و الذي فكر آباؤه و أجداده يوماُ أن يقتحموا قصر الخليفة في "الآستانة" مخيرين صاحبها : إما أن يعود الى ما كان عليه عليه زمن النبي و أصحابه .. و إما أم يعزل نفسه و أن يولي غيره ! 9
يستعرض الأمير في هذه الرسائل المهانة التي تعرض لها آل سعود بعد نفيهم الى مصر و مقدار الإستياء الذي عمّ العالم الإسلامي بسبب ممارساتهم الهمجية بعد أن أخبر مؤسس المذهب الوهابي "محمد بن عبدالوهاب بن سليمان" مريديه بأنه قرشي من ذرية النبي صلى الله عليه و سلم و أعلن لهم قواعد و هي : عبادة واحد قديم يجب إتباعه دون الفروع ، و أن محمداً لا يجب تعظيمه و لا وصفه بأوصاف المدح و التعظيم ، إذ لا يليق ذلك إلا بالقديم ، و أن الله حيث لم يرض بالإشراك ، سخّره ليهدي النّاس ، فمن امتثل منهم فنعم ، و من أبى فهو جدير بأن يقتل ، و أن البدع المستحسنة بعد النبي صلى الله عليه و سلم لا يجوز العمل بها ، و أنه لا يجوز زيارة ولي بعد موته و لا الشفاعة بهم عند الله ، و من فعلوا ذلك يُستحل مالهم و يكونوا حلَّ حرب مثل الكفار و إلى ذلك من القواعد القبيحة. 9
ثم يحكي كيف استنجد "محمد بن عبدالوهاب" بشيخ نجدي اسمه "ابن سعود" ، و على رأس خمس عشر سنة وسع بلاده بعد أن تبعه سائر أهل نجد ، و بعد أن ظهر "محمد" الإجتهاد ، و أنه كبير الوهابية ، و "ابن سعود" أميرهم و قائد عساكرهم ، فصارت ذرية كُلٍ من الاثنين يتولّى رتبة سلفه ، و اختاروا قاعدة بلدتهم "الدرعية" في الجانب الشرقي ، و من أعمالهم أنهم حصروا عن مكة الطعام حتى قاسى أهلها من الجوع أشد ما يكون ، و الحاصل أنهم يكرهون أهل السنة و الجماعة و يسمونهم المشركين ، و لهذا هدموا جميع قباب الأولياء الصالحين التي بمكة و المدينة ماعدا قبته صلى الله عليه و سلم لأنهم لم يقدروا على هدمها ، لكنهم نهبوا ما في الحجرة الشريفة مما هو من الخزائن و الجواهر .. قاتلهم الله. هكذا كانت نظرة المسلمين الى "الوهابية" كما رواها الأمير الى صديقه في رسائله. 9
يتحسر الأمير على تلك الفرص الضائعة للفهم و تصحيح الدعوة و التعايش الإسلامي في غلاف من السلفية الدينية خصوصاً لمن أُتيحت لهم فرصة القراءة و الكتابة في الدرعية و محيطها ، بالإستزادة من العلوم الأخرى في كل الفروع ، لو أنهم فعلوا هذا لكان من الممكن أن تتسع مداركهم ، و لكان موقفهم من الآخر المخالف غير ما تعاملوا من خلاله معه !. ولو أن تلك الجموع المليئة بالحماسة الدينية ، الراغبة في تغيير العالم ليصبح سلفياً مثل عالم الصحابة و التابعين ، علِمَت أن منظارها للدين و الحياة و للإختلاف ، ليس هو الوحيد المُتاح للناس ، لرؤية الدنيا و ما فيها ، و ان للآخرين معانٍ اخرى للتوحيد و للإلتزام بالسُنّة ، و لمعاني الرأي و العلم. و أن لديهم كذلك هموماً في المعاش و وجهات نظر في السياسة .. و في كيف تُعامل النساء؟ لو أنهم أدركوا هذا و طبّقوا اجتهاداتهم على شكل رسائل "علمية" بين علماء الدين المختلفين ، يشرح كمل واحدٍ حسب مذهبه و طرق تفكيره و تأويله للآخر مقدار الإختلاف و الاتفاق بينهم ، بدلاً من توحيد البلاد و العباد بالسيف القاهر ، و على مذهبٍ واحد و رؤية واحدة للدين .. لو ان هذا حدث أكان من الممكن أن يسمع الأمير ، مدافع "ابراهيم باشا" ، و أن يكتب المؤرخون الحقائق و المغالطات عن فظائع غزوات كربلاء و حجرات الأمانات النبوية ؟
و يساءل الأمير في أحد الرسائل صديقه : أكتب على بلادي التي عانت كثيراً من سماع صليل السيوف و رؤية لمعانها المعدني المشوب بالحمرة ، أكتب على أمتنا في الجزيرة أن تحمل عبء نشر الرسالالت ، و عبئاً متبوعاً آخراً لا يقل ثقلاً عن الأول ألا و هو : إحياء ما ظن أنه اندثار لقسمٍ كبير من الدين ؟ أكتب على هذه المواطن أن تكون مصدراً دائماً للعنفوان الديني ، بدلاً من أن تكون مصدراً للهداية المستنيرة ، مضافاً إليها ذلك النوع الهجين من الرقي الممزوج بهيبة الدين و خفاره ؟! 9
يناقش الكاتب في ذكاء كبير المفهوم المحلي الذي طغى على الدين و الدعوة السلفية و يراها عائقاً أكيداً للتقدم و التحضر و الهرب من أغلال العوز و المرض و الأمية و العُزلة ، ما لم يسيطر المعقول على المنقول و ما لم يفتح باب الإجتهاد و التأويل و الإعتراف بأن "الوهابيين" جماعة من المسلمين و ليسوا جماعة المسلمين ، و ما لم يعترفوا بأن في المذهب السلفي الحنبلي نواقص يمكن سدّها بالأخذ من المذاهب الفقهية الأخرى التي تشكو نقصاً أيضاً و الإستزادة بما يتراكم من تراث المراجعات و القراءات الدينية النقدية المختلفة على مر العصور. لكنه يُسلِم أيضاً بأن المفهوم المحلي المتشدد و غير القابل للإختراق العقلي ضمان أكيد لحفظ الهوية و إبقاء شعلة الحياة للعصبية التي وحدت بلاداً كانت عصية على التوحد قبل ذلك. 9
مقاربة ذكية للكاتب بين ما حدث للدولة السعودية الثانية و بما يتهددها من مخاطر داخلية و خارجية في الزمن الراهن. و تأكّد هذا الذكاء في إختيار الكاتب لشخصية تبدو هامشية ليبتعد عن الجدلية التي تصاحب قدسية الأمراء و الملوك في كتب التاريخ لدينا. و رغم إن أسباب هذا الخطاب المختلف للأمير سيف الإسلام بن سعود تبدو مفهومة تماماً ، لكن تبقى الأفكار الواردة في الرواية جديرة بالتفكر. 9
No comments:
Post a Comment