تعد رواية تلك العتمة الباهرة للروائي المغربي الطاهر بن جلون التي أصدرها باللغة الفرنسية عام 2001 والفائزة بجائزة إمباك الأدبية أحد أجمل روايات أدب السجون وأكثرها اختراقاً للنفس ومساساً بشغاف القلب، وقدرة على توصيف واستبطان النفس البشرية عندما تتعرض لتجربة الانحباس داخل قضبان السجن واستلاب الحرية، ودخولها مرغمة في عزلة ووحدة إجبارية تتعرض فيها إلى مواجهة دائمة مع النفس مع كل ما يتجاذبها من مد وجذر وأمل ويأس ورجاء وقنوط. وتعالج الرواية بتقنية أدبية إحدى الصفحات الحالكة لواقع حقوق الإنسان في المغرب والمتمثلة في ظروف سجن ضباط مغاربة متهمين بالتورط في عملية انقلابية ضد العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني عام 1971. 9
و إستلهم الطاهر بن جلون أحداث روايته من قصة حقيقية لأحد سجناء "تزمامرت" ، و لمن لا يعرف تزمامارت ، هو سجن في المغرب ، سجن فيه السياسين الخارجين عن ارادة الملك حسن الثاني و الذي حوى صنوف العذاب والوحشية دون شفقة ورحمة فلا شيء يربطهم بالعالم غير "إنتظار الموت" الذي خطف أصحابهم واحداً تلو الآخر. أمضى ذلك السجين عشرين عاما في ظلمة دامسة تحت الأرض في أوضاع أقل ما توصف به أنها بعيدة كل البعد عن أدنى ما تستطيع النفس البشرية أن تتحمله. و بلغةٍ قادرة على الوصول إلى دواخل النفس البشرية وقدرة مذهلة على فك شفراتها يصف لنا الطاهر في كلمات لامست ذلك الوجع الكامن في أعماق الإنسان حال ذلك السجين، الذي كان يرى رفاقه يتساقطون واحدا إثر الآخر بعد أن فقدوا القدرة على المقاومة والاستمرار في العيش داخل كهف السجن وفي غياهب سجن العزلة والبقاء وجها لوجه أمام مرآة الذات. 9
إنه عزيز احد الضباط الذين شاركوا الجنرال اوفقير محاولة انقلابه على العرش سنة 1971 ومع ان عزيز لم يطلق رصاصة واحدة في العملية لانه كان مأموراً ولم يكن يفهم شيئا عن ما يحدث ولان والده كان صديق الملك الشخصي على الرغم من ان والده أنكره فيما بعد وتبرأ منه ولم يسع الى إطلاق سراحه وطلب من الملك ان لا يؤاخذه بسيئات ابنه. فعزيز كان واقعاً تحت هول الصدمة وهو في القصر والجثث تتناثر من حوله وهو في حيرة لو قدر عليه أن يقتل : هل يقتل الملك أم والده الذي طلق امه و أهمله وتنكر له حتى في أحلك الظروف ؟
نقل الضباط المعاقبون بالموت سجناً الى سجن احدث خصيصا لهم على ما يبدو في عمق الصحراء في تزمامارت .سجن صغير مدفون في الرمل كما يصفه بن جلون : 9
" كان القبر زنزانة يبلغ طولها ثلاثة امتار وعرضها متر ونصف أما سقفها فوطئ جداً يتراوح ارتفاعه بين مائة وخمسين ومائة وستين سنتيمترات . و لم يكن بامكاني ان اقف فيها ..."
هكذا يبدأ وصف حفرة الموت هذه التي لا يستطيع السجين حتى الوقوف فيها الا منحنيا ...تصوروا طيلة 20 سنة رجل لايقف باستقامة ؟
كان الطاهر بن جلون يبحث عن ضياء النور وسط عتمة السجن و ضعف الإنسان المحبوس في سجنه الداخلي داخل حدود الزمان و المكان و بإختياره الشخصي. تبقى قضبان الزنزانات وغياهب السجون أكثر ضيقا وأشد قتامة وظلمة من سجن البدن والزمان والمكان الواقفين أبدا في وجه رغبة الانسان في الانعتاق والتحرر. 9
"طوال ساعة أو أقل ، أبقيت عيني مفتوحتين ، و فمي فاغراً ، لكي أتجرع ما أمكن من الضوء ، لكي أستنشق الضياء و أختزله في داخلي ، و أحفظه ملاذاّ لي فأستذكره كلما أطبقت العتمة ثقيلة فوق جفني ، ابقيت جذعي عارياً لكي يتشبع جلدي بالضوء و يختزنه كأثمن ما يقتنى" 9
وأنت إذ تقرأ الرواية لا تملك إلا أن تتعجب من إرادة الإنسان وقدرته على التشبث بالحياة والانتصار لها، رغم القسوة والألم والعذابات التي تحدق به من كل جانب، لا تملك إلا أن تتعجب من قدرة هذا الكائن الساحر على ابتكار الحيل واختراع الوسائل التي يستطيع أن يقاوم بها البشاعة والظلم والألم والقسوة ! 9
"أحلم بأن أسمع كلمات ، بأن أدخلها في رأسي ، و أكسوها بالصور و أجعلها تدور كدولاب مدينة الملاعب و أضن بها و أستذكرها عندما أشعر بالألم ، عندما يستبد بي الخوف من الجنون. هيّا ، لا تكن مقتراً ، إحكِ ، إخترع إذاً ما شئت و لكن إمنحنا شيئاً من مخيلتك " 9
وكيف يحاول اجتراح طرق تمكنه من المقاومة والاستمرار، وكيف يتحايل ليستمر في البقاء محاولا قطع نفسه من ماضيه فهو يدرك أن الذكريات أمضى الأسلحة التي تقضي على الارادة والقدرة على المقاومة. يكتب بن جلون نقلاً عن بطل الرواية : 9
"أن نعمر الأشياء مجدداً كأن الحفرة لم تكن هي القبر ، ذلك كان قوام نضالنا ، المتصل ، الدؤوب ، المعاند. ألا نستسلم. ألا نفكر لا في جلادينا و لا فيمن خطط و رسم مسبقاً أدق تفاصيل السبيل الذي سيسلكه الموت ، متباطئاً ، متباطئاً جداً ، الى ان ينتزع أرواحنا دمعة تلو دمعة ، كيما يحل العذاب في الجسد و يخمد ناره وئيداً حتى الإنطفاء الكلي" 9
فينظر إلى حياته الماضية كأنما هو ينظر إلى حياة شخص آخر، فهو يتعرف على تلك الحياة ولكنه لا يعرفها وكأنه لم يكن طرفاً فيها حتى لا يهتف به الحنين ويجرفه إلى هوة اليأس. 9
"عندما أتذكر .. ما عدت أخشى الموت من الحنين. حتى إني لم أعد لم أعد محتاجاً الى إحراق الصور و إعادة ترتيبها. صرت أقوى من إختبار الدموع الذي يفضي الى نفق آخر. أرى الى ذكرياتي كأنها ذكريات شخص آخر. و لست ، أنا سوى دخيل متلصص" 9
ويستعين بالصلاة حتى تستطيع روحه أن تنسل من داخل جسده وتبتعد عن الآمة وعذاباته فيتم له الانفصال التام عن ثوب الجسد المنهك بالأمراض الموبوء بالعلل، فيتحرر من تلك الآلام وينفك من شدة قسوتها. فالصوفية وفلسفة التخلي تساعدانه على تجاوز محنته، فالتخلي عن الارتباط بالماضي أو التعلق بالأمل يجعلانه قادرا على تجرع الصبر. 9
"فلسوف أكون من الناجين ما دامت لي القدرة على الصلاة و على التواصل مع الخالق. لقد بلغت أخيراً عتبة الأبدية ، هناك حيث لا وجود لحقد البشر و خستهم و صغاراتهم. هكذا بلغت ، او كنت أعتقد أني بلغت ، وحدة سامية ، تلك التي ترتقي بي فوق الظلمات و تبعدني عن المتجبرين على كائنات ضعيفة. ما عاد في صدري لأنين. لقد أحيلت جميع أعضاء جسمي كلها الى الصمت ، الى شكل من أشكال السكون الذي لم يكن تماماً هو الراحة ، و لا الموت" 9
و هكذا تساقطوا الواحد بعد الاخر ..كانوا 28 لم يبق منهم الا أربعة (4) في النهاية قبل أن يأتي خلاص السجناء عبر تسرب خبر السجن والممارسات اللاإنسانية فيه إلى منظمة حقوق الإنسان في فرنسا في حين كانت السلطات المغربية تنفي طيلة تلك المدة وجود معتقل بهذا الاسم فوق أراضيها . و إثر الضغوط الدولية إضطرت السلطات المغربية الى اطلاق سراح ما تبقى من السجناء ومن ثم ردم السجن وانشاء حديقة فوق أرضه تخفي تماما معالم الجرائم اللاإنسانية التي كانت تتم داخله. 9
يبدو أن الهاجس الذي يعربد داخل كل سجين هو محاولة الاحتفاظ بقواه العقلية وعدم فقدان السيطرة على وعيه، فيجترح كل منهم وسيلة تمكنه من السيطرة على عقله ومنعه من الدخول في متاهات الهذيان والجنون. 9
"الشئ الوحيد الذي تمكنت من المحافظة عليه هو رأسي ، عقلي. كنت أتخلى لهم عن أعضائي , و رجائي ألا يتمكنوا من ذهني ، من حريتي ، من نفحة الهواء الطلق ، من البصيص الخافت في ليلي. ألوذ يدفاعاتي متغافلاً عن خطتهم. تعلمت أن أتخلى عن جسدي. فالجسد هو ذلك المرئي. كانوا يرونه ، و يستطيعون لمسه و بضْعَه بنصلٍ محمّى بالنار ، بإمكانهم تعذيبه ، و تجويعه ، و تعريضه للعقارب ، للبرد المجمد ، غير إني كنت حريصاً أن يبقى ذهني بمنأى عنهم. كان قوتي الوحيدة" 9
ف
"رفعة الجاردرجي" والذي سجن في ابوغريب في عهد الطاغية صدام رسم في ذهنه مخططات بيانية لنظرية جدلية العمارة، وكان يستنفد ساعات عديدة في رسم تلك المخططات التي كان قد عمل عليها في السابق ثم يقوم بتحسينات عليها. أما
"سهى بشارة" التي قضت عشر سنوات كاملة في معتقل الخيام التابع للإسرائليين بعد أن حاولت اغتيال انطوان لحد، فكانت تمارس الرياضة حتى وهي في الزنزانة الانفرادية حتى تقوي جسدها المنهك من التعذيب ومن جرعات الكهرباء التي تنفث فيه، كما كانت ورفيقاتها في السجن يحاولن ممارسة بعض الهوايات الفنية بطرق بدائية جدا كصنع المسابح من نوى الزيتون. من أدب السجون نستخلص العبر ونغوص داخل تجارب ذاتية تؤكد لنا أن العتمة الحقيقية تكون دائما بين ثنايا النفس وليس بين قضبان السجون وأن الإنسان قادر على الإنسلال منها عندما يمتلك القوة والارادة. تجارب قاسية تغور بك حتى مكامن الوجع ولكنها مغرية للاستقراء والتعلم منها وتطرح سؤالا ملحا يقول: أيهما أشد قسوة وأكثر إيلاما ظلمة النفس عندما تخون صاحبها أم ظلمة وعتمة السجون الباهرة؟
9
دمتم بعيداً عن العتمة. 9