مع الأعتذار للبامية
تعد تركيا من الدول العلمانية القليلة في بلاد المشرق الأسلامي. و تنتهج الدولة التركية منهجا علمانيا صرفا يعتمد على عزل الدين و شل مظاهره في الحياة العامة. هذا المنهج العلماني يتمتع بحماية السلطة العسكرية التي أثبتت وجودها على خارطة الأحداث التركية من خلال 4 أنقلابات عسكرية في غضون 37 سنة هدفت جميعها الى حماية نظام كمال أتاتورك العلماني
النظام العلماني تمت أقامته سنة 1923 بواسطة القائد التاريخي مصطفي كمال أتاتورك بعد سقوط الدولة العثمانية بعيد الحرب العالمية الأولى. و طمحت تركيا دوما للأنخراط في منظومة الأتحاد الأوربي و أنتهجت أصلاحات مهمة في شئون الأقليات و قضايا المرأة و حقوق الأنسان
أعلنت تركيا رسميا عن علمانيتها في سنة 1928 و أجريت أول أنتخابات رسمية بها سنة 1950. لكن في سنة 1960 بدأت أولى التدخلات العسكرية حين أزيح الحزب الديمقراطي الحاكم من سدة الحكم. ثم أجبر السيد سليمان ديميريل عن التنازل عن مقعد رئاسة الوزراء في سنة 1971. و جاء التدخل العسكري الثالث في سنة 1980 ثم أتبع بأنقلاب رابع أجبر حزب الرفاه الأسلامي بقيادة زعيمه التاريخي نجم الدين أرباكان على التراجع سنة 1997 و أنتهى بمحاكمة السيد أرباكان و الحكم بسجنه و حل الحزب
النظام القانوني في تركيا يستند الى ديمقراطية برلمانية. ينتخب رئيس الدولة (منصب شرفي) كل سبع سنوات بواسطة البرلمان و تبقى مقاليد السلطة في يد رئيس الوزراء. لكن يبقى للرئيس الحق في رد القوانين و التشريعات و هو ما حدث مرارا في السنوات القليلة الماضية مما أدى الى شل قوة الحزب الحاكم نسبيا. و تكمن أهمية منصب الرئيس الى أنه قائد أعلى للقوات المسلحة و يعين رئيس أركان الجيش.بعد سنين عجاف كادت تفضي الى الأنهيار الأقتصادي بدأت الدولة التركية في التعافي تحت ظل حكم حزب العدالة و التنمية الذي وصل الى مقاليد السلطة عام 2002 (حصل على أكثر من ثلث الأصوات ما مكنه من تشكيل حكومة غير أئتلافية) الذي بدأ في سن قوانين الأصلاح السياسي و الأقتصادي و الأجتماعي. فبدأ النمو الأقتصادي و كبح نسب التضخم فقد تضاعف حجم الاقتصاد التركي خلال الأربع سنوات الأخيرة التي تولى فيها حزب "العدالة والتنمية" السلطة إلى أربع مرات، بسبب تقيد تركيا بالبرنامج الاقتصادي لصندوق النقد الدولي. و قد أفاد السيد أردوغان في بيان حديث بأن متوسط النمو الاقتصادي خلال الفترة من عام 2003 الى عام 2006 كان 7.3 بالمائة وتضاعف دخل الفرد في تركيا خلال تلك الفترة
شهدت المدنية التركية أحتجاجات (تقدر بعشرات الألوف) هدفت الى منع مرشح حزب العدالة و التنمية السيد عبدالله جول من الترشح الى
الأنتخابات الرئاسية. و في غياب أي منافس حقيقي تبدو فرص السيد غول سانحة للظفر بهذا المقعد رغم معارضة الجيش و القوى العلمانية. المفارقة في الموضوع أن من أدعى أن لا ديمقراطية بدون علمانية عليه النظر الى الحالة التركية حين تحشد المظاهرات لمنع أنتخاب الرئيس بصورة ديمقراطية و حين يهدد الجيش بالتدخل في تهديد واضح للدولة المدنية
كما أن الجيش التركي الذي يسيطر عليه العلمانيون بصورة مطلقة قد هدد في بيان رسمي بالتدخل ما أذا هددت مبادئ العلمانية بغض النظر عن الوسائل الديمقراطية السلمية المنتهجة. وقالت رئاسة الاركان في بيان لها ان المشكلة التي برزت مؤخرا في الانتخابات الرئاسية تتركز على مسالة اعادة طرح موضوع العلمنة على بساط البحث, واشار البيان الى ان القوات المسلحة هي ضد هذه النقاشات, مذكرا ان القوات المسلحة هي الحارس الامين للعَلمانية. وكان المفوض الاوروبي لشؤون التوسيع "اولي رين" دعا الجيش التركي الى البقاء خارج العملية الانتخابية في تركيا. واعلن المفوض لمجموعة من الصحافيين "من المهم ان يترك الجيش الصلاحيات الديموقراطية للحكومة المنتخبة".و اعتبر ان ذلك "يمثل اختبارا لرؤية ما اذا كانت القوات المسلحة التركية تحترم العلمانية الديموقراطية والتنظيم الديموقراطي للعلاقات بين المدنيين والعسكريين".و قد أخفق السيد غول غي الحصول على الأغلبية البرلمانية التي تؤهله لشغل سدة مقعد الرئاسة بهامش ضئيل لا يتعدى الأربعة عشر صوتا من أصل 550 لكن لتصويت سيعاد بتاريخ 22 يوليو بحسب قرار البرلمان التركي في هذا الشأن.وقد انعكس الصراع السياسي الذي تشهده تركيا على الاوضاع الاقتصادية بشكل سلبي على تعاملات البورصة الاسبوع الماضي وساد الخوف اوساط المستثمرين بسبب عدم الاستقرار الذي تعيشه البلاد. وفقد مؤشر أي اس ايي الرئيسي في البورصة التركية 8 بالمئة من قيمته، في حين هبط سعر الليرة مقابل العملات الرئيسية بحوالي اربعة بالمئة عند فتح الاسواق يوم الاثنين الماضي
و من المدهش أن يعدو حجاب زوجة وزير الخارجية أحد الأمور التي تقض مضاجع العلمانيين في تركيا. فقد سمعنا دوما بأن دعاوي و فكار الأسلاميين هشة و لا تستحمل النقاش و لكننا نرى هنا أن المبادئ العلمانية يكتنفها الخطر بسبب رداء قماشي ترتديه سيدة فاضلة. كانت أم أتاتورك نفسها تغطي شعرها. بالطبع لا يعني هذا أن العلمانية في خطر
و قد تحدى السيد رجب طيب الدين أردوغان قرار المحكمة الدستورية القاضي بأرجاء الأنتخابات الرئاسية و الذي وصف بأنه رصاصة في وجه الديمقراطية باللجوء الى الأنتخاب العام المباشر و هو أرقى الممارسات الديمقراطية مؤكدا بأن حزبه يمتلك أكثر من 70% من أصوات الناخبين الأتراك واصفا هذه العملية بأنها المخرج الوحيد من الأزمة التي تعيشها البلاد بسبب تعنت العلمانيون و عدم أيمانهم بمبادئ الديمقراطية
ما حدث في تركيا يثبت بشكل قاطع أن العلمانية لا تستند الى الأصلاح الأقتصادي كركيزة أساسية. فما قام به حزب العدالة و التنمية من أصلاحات تعد ليبرالية أقتصاديا لم تشفي الغليل السياسي للعلمانيين و هو يؤكد مرة أخرى على عدم تلازم المسارين الليبرالي و العلماني. فالليبرالية تستند الى تحرر النظم السياسية و الأقتصادية و الأجتماعية من أي فكر دينيا كان أم غير ديني. بينما تستند العلمانية الى تحرر النظم السياسية وحدها من الفكر الديني فحسب
و في هذا السياق يقول "يوست لاجنديش"، عضو البرلمان الأوروبي الذي يرأس لجنة القضايا التركية "لقد استطاع هذا الحزب (العدالة و التنمية) تحديث تركيا أكثر مما قامت به الأحزاب العلمانية في السنوات الماضية، فقد أظهروا استعداهم لفتح النظام، ورفع التحدي أمام النخبة القائمة". ويُشار إلى أن الحزب الذي ساهم "جول" في تأسيسه ويعرف باسم "العدالة والتنمية" استند إلى الحركات السياسية الإسلامية التي ظهرت في التسعينيات. لكن الحزب الذي اعتمد على أجندة إسلامية بحتة أصبح أكثر اعتدالاً بعد وصوله إلى السلطة إثر الانتخابات التشريعية لعام 2002. ومنذ ذلك الحين حرص الحزب على تطبيق سياسات براجماتية ساهمت في خلق انتعاش اقتصادي وقادت الدولة إلى الانفتاح على نحو لم تتصوره حتى النخب العلمانية التي كانت تعتمد في السابق على الدولة، وذلك سعياً من الحزب إلى تأهيل تركيا وتسريع انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي
مفارقة أخرى حول النظام العلماني التركي أنها أشتركت في جرائم أنتهاكات حقوق الأكراد بالأشتراك مع نظم بعثية علمانية غير ليبرالية (بجناحيها العراقي و السوري) و نظام أسلامي شيعي في أيران. ما يثبت بأن الأفكار و المبادئ في كل من هذه النظم لا تطبق على أرض الواقع و أن الخلل يكمن في العقلية الشرقية التي لا تؤمن لا بالديمقراطية و لا بالمثل و الأخلاق و لا حقوق الأنسان و لا بالتنوع الأيديولوجي و تسعى لأستحواذ السلطة بعيدا عن الأقليات المهمشة
أيضا من المفارقات العلمانية أن المحكمة الأوربية لحقوق الأنسان قد أقرت في حكم تاريخي سنة 2001 بالأنتهاكات الخطيرة من قبل النظام العلماني التركي لحقوق المواطنين القبارصة الشماليين و الذين ينتمون الى أصول يونانية
المفارقة الأخيرة أن نفس الأسلوب المنتهج من قبل العلمانيون (و هو شرعي) بالنزول الى الشارع حدث مؤخرا في لبنان من قبل قوى المعارضة. لكن تمت مهاجمته و بضراوة في مفارقة جميلة تشير الى تناقض المبادئ حين الحديث عند الخصوم السياسين و تكتيكاتهم السياسية
العلمانية كفكر يدعو الى مدنية الدولة هو أمر لا غبار عليه لكن الطامة الكبرى في عقليات العلمانيون الشرقيون الذين لا يستطيعون أستيعاب أن مدنية الدولة هي الغاية لسيادة القانون و أحترام الآخر و أنها ليست وسيلة لألغاء الآخر و نشر الفكر المضاد. لذا فأنني أقول أن كان ما يجري في تركيا هي العلمانية فمالت على "العلمانية" أم السناسين .. مع الأعتذار للبامية طبعا