شرق الوادي لتركي الحمد

ها أنا أعود لقراءة روايات تركي الحمد و الكتابة عنها بعد ان طالعت ثلاثية الأزقة المهجورة (العدامة ، الشميسي ، الكراديب). و هذه المرة أحسنت الإختيار أو لنقل أحسنت الإصغاء الى النصيحة التي قدمت لي. فبالرغم من جودة الثلاثية إلا إن رواية شرق الوادي تتفوق عليها رغم التشابه في بعض مكونات القصة. 9

فما زال تركي الحمد يكتب من قلب القرى النجدية. هذه المرة لا يتكلم عن حقبة الخمسينيات و الغليان السياسي في الدول العربية بسبب صعود و أفول نجم القومية العربية التي إرتبطت بالنظام الناصري في مصر و التي إمتدت تأثيراتها حتى الى قلب المملكة العربية السعودية. لكنه يكتب عن تشكيل و تأسيس الدولة السعودية الثالثة و غزوات بن سعود و معاهداته و تحالفاته مع القبائل و الجيوش كإبن رشيد و جيش الإخوان. 9

أنا مفتون بهذه الحقبة التي ما زلنا نعيش إرهاصاتها الى اليوم و كيف تزاوج الدين بالسياسة بالعسكرية بالنسب و المصاهرة و كيف إستطاع بن سعود الطريد من دياره أن يعيد توحيد مملكته في نجد قبل أن يتوسع شمالاً و يمتد غرباً قبل أن يسقط حكم الهاشميين في الحجاز و يعلن مملكة نجد و الحجاز. 9

الرواية تأخذ الطابع الأسطوري لقرية نجدية في أعماق النفوذ كأنما خرجت من كتب الأساطير لتندمج بالتاريخ المؤرخ لتأسيس المملكة العربية السعودية. هي قصة بحث جابر السدرة عن صديق طفولته "سميح الذاهل" الذي اختفى ، وعدد من الوقائع التي تحتار في تفسيرها ما بين الحقيقة والخيال فتترك محتارا إذا ما كان سميح الذاهل حقيقة أم هو أمل من نسج الخيال. 9

و كما العادة يبدو الحمد متكلفاً و متصنعاً حين يستغرق في إستعراض مهاراته القرائية و الفلسفية و التي لا تمت بصلة لا إلى بيئة أحداث الرواية. فينقل الحمد على لسان بطل الرواية القادم من "خب" صغير في قلب الصحراء بجانب مدينة القصيم : 9

"هكذا كانت الدنيا دائماً ، و هكذا ستبقى. لا تعني لهم (أهل الخب) أوربا و ثوراتهم ، و لا أمريكا و حروبها شيئاً ، و لم يسمعوا بنابليون و بسمارك و غاريبالدي. لا يدرون من هو ماركس و فرويد أو داروين ، و لافكتوريا أم مترينخ ، و لا يهمهم أن يدروا . فماركس جعل من الجوع نظرية ، و في خبنا فإن الجوع من طبائع الأشياء. و فرويد جعل من الجنس و المكبوت نظرية ، و خبنا بسيط بساطة الفطرة نفسها ، ليس لديه ما يمكن أن يكبت حتى يشغل نفسه بالمكبوت. و فكتوريا جعلت من العفة الجنسية فضيلة مفروضة ، و في خبنا ليست العفة من الفضائل ، لأنها من طبيعة الحياة. و مترنيخ جعل السياسة مناورة و فناً من فنون اللعب ، و خبنا لا يعلم من السياسة إلا فن البقاء على وجه بسيطة الله .... فلا ضرورة لمثاليات أفلاطون و منطقيات أرسطو و رومانسيات روسو و انطولوجيات هيغل و نشوئيات داروين و وجوديات كيركغارد و سارتر !!" 9

أحس بأن الحمد حاول إقحام جميع ما قرأه قبل إسقاطه على خب السماوي و روايته فأنا (الحلم الجميل) في القرن الواحد و العشرين لم أسمع بغاربيلدي و لا مترينخ و لا أعلم بأنطولوجيات هيغل و لا آبه لها ! فكيف لنا أن نتصور هذا الحديث على لسان جابر السدرة الذي عاش قبل أكثر من مائة سنة ؟! 9

تجاوزت هذه الرواية البعد الروائي إلى العمق التاريخي، لم توظف الأحداث التاريخية التي حدثت في المملكة العربية السعودية على اختلاف مستوياتها لصالح الرواية بأسلوب رشيق غير متكلف ودقيق في ذات الوقت. بل إن الحدث التاريخي يلعب دورا رئيسا في الرواية ، ويدخل في النسيج العام لحركتها وهذا ما أكسب الرواية المزيد من الواقعية و قربها من عقل القارئ ووجدانه بشكل أكثر. 9

و اعتمدت الرواية على ثنائية متلازمة و هي المكان و الزمان بحيث لا يمكن للقارئ أن يتخيل أو يناقش الأفكار التي طرحت في الرواية خارج هذين البعدين. كما إعتمد المؤلف على الفنتازيا في مواضع كثيرة من روايته. فقد أمضى الحفيد الراوي (جابر بن عبد العزيز بن جابر السدرة) أربعين عاماً من عمره باحثاً عن"الوهم الحقيقي" أو "الحقيقة الوهم" .. سميح الذاهل .. قبل أن يقرر أن يروي حكايته بحثا عن الخلاص الفردي. 9

انقسمت الرواية إلى خمسة أقسام, سميت "أسفاراً" : توسطها سفر التائهين, ما قبله تمهيد له : سفر الآفلين و وسفر الأولين. و ما بعده نتيجة له : سفر اللاحقين و سفر الحنين. فيحاول الحمد أن يسقط أضواء المعرفة على الواقع السعودي المسدل بستار سميك من الجهل بعد أن بهذه البقعة المتناهية في الصغر إلى العالم الخارجي مروراً بالكويت و الشام و القدس و مصر و أرامكو الأمريكان مروراً ببيروت و لندن و روما إنتهاءً بنيويورك و تكساس الغرب الأمريكي. فيسرد الحمد بأسلوبه العذب السلس الدروس الإنسانية الكبرى : إنه لا يوجد خير مطلق ولا شرّ مطلق و لا توجد حقيقة مطلقة لأن الحقيقة لها وجوه عدة و إنه ما أوتينا من العلم إلا قليلا و أنه من صلب التجربة نستولد الحكمة التي بها نستولد النور من قلب العتمة و إن الإنسان ما أنفك يبحث عن ذاك الشيء الثمين الذي يعرف ب "اليقين" و الذي يهب السكينة. 9

و لا تخلو الرواية من الطرافة حين يصف النجدي القادم من بريدة جمال علياء الشودرية : "ردف تحط عليه الدلة ما تطيح ، و خصر تقبضه بايدك ، و خشم كنه سلة سيف ، و نهد زامي ، و عرف و وجه و شعر ، و كل ما فيها يرتج عندما يسير" 9

الحمد المثقل بهموم التاريخ و بفلسفة التاريخ و إستخدامه لحوادث التاريخ والمقولات التاريخية و إستعادة أساليب كتابتها ضرب لنا العديد من الحكم في قالب أدبي جميل سأسرد بعضها هنا ،، 9

"الشيوخ نفسهم قصير .. يحبونك اليوم و يوصلونك السما السابعة و يكرهونك من باكر و يدفنونك بالأرض السابعة و لا تدري وش مزعلهم و لا وش مرضيهم"

"عندما ترى أحداً مهووساً بالحق مبالغاً فيه فأعلم أن الحق ليس معه أو أنه يخفي كل الباطل"

"القوة العسكرية ليس إلا زبداً لا بد له من ماء و الماء هو الحاضرة"

"ألا بد من الموت حتى ندرك قيمة الناس و الأشياء ؟ ألا بد أن يصلب ابن مريم كي ندرك قيمته؟ ألا بد أن نطرد من الجنة كي ندرك قيمتها ؟ ألا بد أن يقتل قابيل أخاه هابيل كي ندرك فظاعة الدم المسفوك ؟ كم أنت حقير أيها الإنسان .. تريد أن تكون إلهاً و أنت مجرد دودة في الغرف المظلمة .. و تتحدث عن معجزة الإنسان ؟؟ يا له من حمق ! و هل قضيت على الذباب من حولك كي تدعي سيادة الإنسان ؟!!" 9

لتحميل الرواية إضغط هنا

password : tipsclub