لماذا انحرف قطار التنمية ؟ - الجزء السادس عشر

مقدمة لا بد منها : 9

كان من المفترض أن أطرح هذا الموضوع قبل الكتابة عن الأحزاب (الجزء الأول ، الثاني ، الثالث ، الرابع). لأنني أعتقد بأن إستكمال الفراغات التشريعية أمر أساسي و ضروري قبل البدء بعملية تقنين الأحزاب. و المتلمس لأحداث الأسابيع القليلة الماضية سيعرف حتماً بان فكرة إنشاء الأحزاب ستكون مدمرة تماماً متى ما طبقت من دون إتخاذ تدابير مطلوبية لحماية الديمقراطية من الفوضى. 9

الجزء السادس عشر :الفراغات التشريعية و تحصين مبادئ الدستور

قبل أن أشرع فيما أود ان أقول ، أرجو ان أسرد لكم حادثتين حقيقتين قد تقربان فكرة اليوم الى أذهانكم. الأولى هي عن صديق حباه الله ببحبوحة من المال أنشأ على أثرها شركة خاصة تقوم بتقديم خدمات من نوع خاص الى الشركات. و يقوم بنشاطه هذه مستخدماً سيارات خاصة. و لتعزيز صورة خدماته في أذهن الناس و نشر أسمها فكر في صبغ سيارات شركته بطريقة معينة و وضع إسم الشركة عليها بصورة مميزة حتى تبدو انشطتها واضحة جداً للعيان. تقدم بطلبه الى إدارة المرور التي لم توافق على صبغ السيارة بهذه الطريقة. السبب كما قبل له أنه لا سند قانوني يسمح بهذا الأمر و لا سند قانوني يمنعه. الحل كان تذكرتي سفر لمدير الإدارة و زوجته ! ثم صبغت السيارات ! 9

الحادثة الثانية هي ما كنت ألاحظه انا في علاقة وزارة التربية بالمدارس الخاصة. فحين يتوجه أحدهم الى وزارة التربية شاكياً أحدى المدارس الخاصة فإن المسئولين في الوزارة يقومون بالتقاعس فيما يخص موضوع الشكوى بحجة إنهم لا يمكلون سلطة أو تأثير على هذه المدارس. و لكنهم و في المقابل نراهم يتدخلون و بصورة فجة في صميم عمل هذه المدارس و مناهجها و أنشطتها و غالياً ما تتعلل المدارس عن سوء الخدمة التعليمية المقدمة من طرفها بهيمنة الوزارة على كل صغيرة و كبيرة و قتل روح افبداع و الإبتكار لديهم. لذا ففي ظل قانون واضح ينظم العلاقة بين الوزارة و المدارس الخاصة و يحدد أوجه و اسطح العلاقة ، فإن جميع الأطراف ستجاول ان توجه هذا الفراغ لصالحا و غالباً ما يكون المواطن الغلبان هو الضحية. 9

هاتين الحادثتين تلخصان الفكرة الأساسية و هي أن غياب النصوص القانونية اللازمة هو ما يخلق نوعاً من الفوضى التي قد يستغلها ضعاف النفوس خدمةً لمصالحهم الخاصة. النتيجة غالياً ما ستكون إستغلال مسؤول ما لهذا الفراغ أو تجيير موقف ما لصالحه و التذرع بعدم إختصاص في موقف آخر. 9

على صعيد العملية السياسية ، أصبحت عدم الثقة هي السمة الأبرز في العمل البرلماني. حيث تغلبت صفة الرقابة على صفة التشريع في المجلس. و غابت الأفكار التنموية بسبب هذا الشئ. و لهذا فأنا كنت انتقد السمة القانونية الفجة التي تتعامل بها الحكومة مع أمور فنية. و لهذا السبب أيضاً نرى أيضاً أن الأداء المالي للدولة أفضل نسبياً من الأداء الإداري و ذلك لأن الرقابة المالية موجودة و ممثلة في جهاز ديوان المحاسبة بينما الرقابة الإدارية مغيبة تماماً. 9

الأمر الآخر هو اننا نجد كثيراً من النصوص الدستورية خصوصاً تلك المتعلقة بالباب الثالث – الحقوق و الواجبات العامة. فعلى سبيل المثال صرح وزير المواصلات السيد عبدالله المحيلبي ستراقب المدونات و المنتديات الإلكترونية و إنها ستطلب من الشركات المزودة للخدمة بالتعاون في هذا الجانب. و سرت انباء تتحدث أن وزارة المواصلات قد قامت بتعديل بعض بنود عقود هذه الشركات مع الوزارة و إعادة توقيعها. فيما إن المادة 39 من الدستور تنص على أن حرية المراسلة البريدية والبرقية والهاتفية مصونة ، وسريتها مكفولة ، فلا يجوز مراقبة الرسائل ، او افشاء سريتها الا في الاحوال المبينة في القانون وبالاجراءات المنصوص عليها فيه . 9

ما يحدث من تجاوز على مواد الدستور و مبادئه هو بسبب عدم وجود نصوص قانونية تجرم الإعتداء عليها. فمثل هذا التحصين لو حدث لرأينا أن حجم التجاوزات سيقل بصورة كبيرة. ماذا سيحث لو سن قانون يجرم الدعوة الطائفية و القبلية و الفئوية؟ و أن تعرف ما هي الدعوة الطائفية و ما هي الدعوة القبلية و ما هي الدعوة الفئوية؟ ماذا سيحدث لو أقر قانون يسمح بتداول المعلومات في كل الجهات الحكومية و ينص على الشفافية فيما عدا ما يستثنيه القانون؟ ماذا سيحدث لو سن قانون يجرم و يعاقب من ينتهك حرمة المساكن لا سيما من قبل قوات الأمن و الشرطة و المباحث؟ ماذا سيحدث لو أقر قانون لمكافحة كافة أشكال التمييز و على أن ينص القانون على الإستثناءات فيه كقوانين الورث لمن إختار هذا الأمر؟

هل تذكرون ازمة التوريث في شتاء 2006؟ ماذا كان سيحدث لو لم يكن لدينا قانون توارث الإمارة الذي حصن ضد التغيير. فقد نص الدستور على ضرورة إصدار القانون خلال سنة من تاريخ العمل بالدستور ، وتكون له صفة دستورية فلا يجوز تعديله الا بالطريقة المقررة لتعديل الدستور. 9

الخوف من الأحزاب – لا سيما تلك التي تتقنع بالدين ، إنها متى ما وصلت لسدة الحكم فإنها ستتنكر لأية حريات من شأنها الإضرار بحكمها أو لا تتفق و أفكارها المعلن منها و غير المعلن. لذا فإن خطوتها الأولة ستكون نحو تغيير هذه القوانين لا سيما تلك المتعلقة بالحريات. من هنا فنحن نرى بضرورة تحصين المبادئ الواردة في الدستور و ذلك عن طريق وضع نصوص قانونية تجرم منتهكيها. 9

على الرغم من إيماني الشديد بأن التنمية تتجلى صورها في التقدم الإقتصادي إلا إن التنمية الحقيقية يجب أن تتمحور حول الإنسان الكويتي لا سيما فيما يتعلق بمستوى التعليم الذي يتلقاه و مستوى الرعاية الصحية و مناخ الحريات المحاط به. و هنا أستذكر أزمة النمور الآسيوية حين أنهارت إقتصادياتها في منتصف التسعينيات و لكن شفع لها تمركز مظاهر تقدمها حول التعليم و جودته فهذا هو الإستثمار الحقيقي. لذا فإن المواد الضامنة للحريات و البحث العلمي و جودة مستوى التعليم يجب أن تحصن بقوانين تمنع إنتهاكها و تحميها من هيمنة و سطوة التيارات السياسية (بما فيها الحكم) متى ما وصلت الى سدة الحكم. حينها سنكف عن الجدال في أمور أساسية و جوهرية و نكسر حاجز عدم الثقة و نتفرغ لعملية الإصلاح. 9

و للحديث بقية ،، 9