الجزء العشرون : ما بين الكفاءة و الولاء
في سنة 1963 أنتخب أول مجلس أمة في تاريخ الكويت. و قد تعرض ذلك المجلس الى أزمة دستورية تمثلت في إمتناع عددٌ لا بأس به من النواب المنتخبين من حضور الجلسة الإفتتاحية ما أدى الى عدم تمكن الحكومة المشكلة من أداء قسمها الدستوري و من ثم إضطلاعها بمهامها المكلفة بها. كان السبب الظاهر هو تشكيل الحكومة من مجموعة من التجار بما يخالف النص الدستوري القائل بعدم جواز الجمع بين العمل الوزاري و العمل التجاري. أما السبب الباطن هو الخلاف بين تيارين داخل الأسرة الكريمة. قاد أحدهما المغفور له الشيخ جابر الأحمد و قاد الآخر المغفور له الشيخ جابر العلي. و قد أفضت هذه الأزمة الى رجوع المغفور له الشيخ عبدالله السالم من إجازته و قبوله لإستقالة الحكومة وإعادة تشكيلها و تنحي السيد عبدالعزيز الصقر من منصبه كرئيس لمجلس الأمة. 9
الشيخ جابر الأحمد كان قد إعتمد "الكفاءة" مقياساً لعمله و أحاط نفسه بعدد من رجالات الدولة الأكفاء و إختار النخب الإقتصادية و الفكرية لقيادة الدولة ، الأمر الذي أفضى الى إنشاء العديد من المؤسسات الحكومية المتميزة و الى إزدهار الدولة و تفوقها في محيطها الإقليمي. 9
أما الشيخ جابر العلي فقد إعتمد "الولاء" كمنج لتحركاته. و قد إزدادت ضراوة هذا المنهج بعد وفاة المغفور له الشيخ عبدالله السالم حيث عمد الى مبدأ التجنيس و كسب ولاءات بعض رجالات القبائل و أعضاء مجلس الأمة ما دفع الى تزوير إنتخابات مجلس 1967. يومها سقط معظم رجال جابر العلي الذي طلب ممن تبقى من أنصاره الإستقالة و توجيه رسالة للسلطة. و يومها أيضاً رفض هؤلاء الأنصار الإنصياع لأوامر الشيخ جابر العلي و باعوا ولائهم للجهة المقابلة. 9
هذا الدرس التاريخي البليغ من تاريخ الكويت يجب أن تتذكره الأجيال الحاضرة و المستقبلية من أبناء الأسرة الكريمة. مشروع جابر الأحمد هو الذي نجح على صعيد طموحه الشخصي و على صعيد الدولة. منفعة الحاكم هي في منفعة الدولة. و هذا لا يأتي عبر كسب الولاءات ، فهي مؤقتة و زائلة و تكاليفها كبيرة جداً و المتضرر الأكبر هو الوطن الذي نحب. بينما الكفاءة ترفع من شان و مقام الحكم و ينعكس إيجاباً على الصالح العام. 9
اليوم ، مبدأ "الولاء" هو السائد. و يا ليت الولاء كان للدولة ، للوطن ، الحاضن الأكبر للشعب الكويتي. الولاء اليوم أصبح للفرد ، الإله ، الرمز الذي لا يخطئ. إندفع أبناء الأسرة الكريمة المتقاتلون فيما بينهم و الطامحين للزعامة للبحث عن هذا الولاء المطلق. هذا المنطق هو من أبعد رجال الدولة المخلصون. هو من أوصل طلال العيار و فهد اللميع و صلاح خورشيد الى سدة الوزارة و هو من جعل بن شرار و عادل الطبطبائي و عبدالله بشارة مستشارين في الدواوين الرسمية . هو من يقتل الكفاءة و ينحر العدالة و و يذبح الطموح. هو من يعزز الشعور بإنعدام القانون ، بان سند المواطن و عزوته ليست في تلك اللوائح و النظم ، بل يجب عليه أن يأخذ "حقه بذراعه" و بمساعدة أبناء القبيلة و الطائفة و العائلة المقربين للسلطة. مبدأ الولاء هو من قلص منظومة القيم لدى المواطن فإنتشر الفساد و سادت الرشوة و شاعت الواسطة و تآكلت مقومات الدولة في كل المجالات و الميادين و تزعزعت هيبة السلطة. 9
هنا أخفقت السلطة ، و هنا إنتهى مشروع الدولة و هنا إبتدأ السقوط الحر الى الهاوية. هنا "تمت التضحية بمصلحة البلد من أجل مصلحة النظام". كما تم التضحية بثلثي البلد (في سنة 1922) لا من أجل الثلث المتبقي ، بل من أجل الحفاظ على الحكم أيضاً ! 9
الأسرة الكريمة فقيرة جداً في طواقمها البشرية الحالية. فهي لم تهتم بتعليم أبناءها و تثقيفهم و تحضيرهم لمزاولة شؤون الحكم. فآخر رجالات المرحلة الذهبية الأمير صباح الأحمد هو خريج مدرسة عبدالله السالم الذي إهتم بشباب الأسرة و أخذ على عاتقة مهمة تدريبهم و إعدادهم لا سيما إبن شقيقته الشيخ جابر الأحمد. لا توجد لدى أبناء الأسرة الثقافة القانونية و السياسية و الإقتصادية. بعيدين جداً عن مبادئ الإدارة و الإستراتيجيات و الخطط و متابعة الأداء. لا توجد لديهم "قيمة مضافة" بما يتعلق بنظم المناقصات و التعاقدات و إعداد الميزانيات و تنفيذ المشاريع. 9
و بدلاً من اللجوء الى مبدأ الكفاءة ، رأينا الجنوح الشديد بسبب أزمة التوريث و الخلافات بين أجنحة الأسرة المتصارعة الى ظهور طبقة فاسدة من "فداوية العهد اليديد". هذه الطبقة أصبحت تمثل مراكز قوى و دخلت في لعبة التوازنات السياسية ، لذا فإن المواطن العادي يدوخ من تقلبات المواقف و تبادل المراكز. لا يعرف إن كان أحمد المليفي يسنده أحمد الفهد أم لا؟ لا يعلم طبيعة العلاقة بين التكتل الشعبي و مؤسسة العفن. لا يعلم إن كان نواب الشيعة قد أدانوا بالولاء التام لسمو جاسم الخرافي أم لا. و لا يفهم كيف لا ينتقل الرفض الشعبي العارم لسوء الأحوال و مساندته للإستجواب الذي يحمل رأس السلطة التنفيذية الفشل الذريع في إدارة أمور الدولة الى بيت الشعب و الى صحافة الكويت الحرة و وسائل الإعلام الأخرى ! 9
هذا الوضع المختل هو ما أدى الى وضع من لا يحمل مؤهلات الكفاءة على سدة الأمور. هو من أدى الى التخلي عن دور رجالات الدولة. هو من أدى الى إنتشار الفساد لأن المعيار أصبح مقدار الولاء (للفرد وليس للوطن). هو من أدى الى التدهور الكارثي في قيم المواطنة. هو من أدى الى إنهيار "حلم" الدولة الحديثة ! 9
إن ما تشهده الكويت من تقهقر مرده إنعدام الرؤية الإستراتيجية لقيادة الوطن و تلاشي مقومات الكفاءة فيمن أنيطت به مهمة إدارة الحكومة ، مما يلزم بضرورة الحال ، "الإستعانة" بأهل المشورة و الخبرة من اهل الكفاءة المخلصين في هذا البلد ، و ما أكثرهم. 9
و حول شكل الإستعانة تلك نقاش طويل متشعب سيأخذ حقه في المقالات القادمة حول خيار "شعبية الحكومة". 9